الأحد، 10 يناير 2010

الشهيد نزار ريان.. عالم الحديث المقاتل!



عالم في الحديث النبوي.. رباني يُعرف بورعه وتقواه.. ورغم ذلك كان في مقدمة صفوف المقاتلين يحثهم على الجهاد ضد إسرائيل.. قدم أبناءه شهداء فداء للدين ولتحرير تراب فلسطين.. لم ينصت للتحذيرات التي طالبته بمغادرة المنزل، فكان الموعد الذي لم يخطئه مع الشهادة التي دائما ما تمنّاها..
إنه نزار عبد القادر ريان (49 عاما)، أستاذ علوم الحديث الشريف بالجامعة الإسلامية، وأحد كبار علماء حركة المقاومة الإسلامية "حماس" الذي غادر الدنيا شهيدا عصر اليوم، وعشرة من أفراد عائلته بينهم زوجاته وبعض أولاده في قصف طائرات إف 16 لمنزله المكون من أربعة طوابق في مخيم جباليا للاجئين شمال قطاع غزة.

عالم الحديث الذي بكته عيون الجماهير الفلسطينية الغفيرة عصر اليوم فوق أنقاض منزله، من مواليد قرية جورة عسقلان المحتلة عام 1948، وكان دائما يردد: "أنا من الجورة.. إن شاء الله نحن عائدون عائدون".
والقيادي الشهيد هو أحد علماء فلسطين البارزين، ويُنادي كذلك باسمه "نزار ريان العسقلاني" نسبة لقريته، كما أنه أحد كبار علماء حركة حماس الذين تعتمد عليهم في فتواهم.
يُعرف ريان بشعبيته الكبيرة في صفوف الفلسطينيين، داخل وخارج حركة حماس، وازداد التفاف الجماهير حوله عقب اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000؛ لجرأته في تحدي جيش الاحتلال حتى في أشدّ الاجتياحات العسكرية الإسرائيلية، كما أنه تمسّك بمنزله في مخيم جباليا المكتظ، ليعيش حياة متواضعة ومتقشفة، حتى في ملبسه، رغم مكانته العلمية البارزة، بحسب وكالة قدس برس.
كما قاد عالم الحديث مبادرة فلسطينية جريئة، لتحدي سياسة هدم منازل المواطنين الفلسطينيين، وذلك حين أطلق مبادرة تشكيل دروع بشرية شعبية لحماية منازل المواطنين الفلسطينيين المهددة بقصف طائرات الاحتلال خلال السنتين الماضيتين.
وكان يصعد مع مئات المواطنين إلى أسطح البنايات، مرددين التكبيرات، في تحد واضح للاعتداءات الإسرائيلية.مقاتل قسامي
وريان الذي أجرى عملية قلب مفتوح في العاصمة السورية دمشق قبل عامين تقريبا، كان قد كشف لـ"إسلام أون لاين.نت" في وقت سابق عن عضويته في مجموعة لكتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، يشاركها في صد اجتياحات الاحتلال لقطاع غزة.
وظهر الشيخ الشهيد أكثر من مرة أثناء مشاركته في مناورات عسكرية لكتائب القسام، يرتدي الزي العسكري، ويحمل على كتفيه مدفع الآر بي جي، يحث أعضاء كتائب القسام على مواصلة جهادهم ضد إسرائيل.
واستشهد ابنه الثاني إبراهيم في عملية فدائية أثناء اقتحامه لمستوطنة دوغيت شمال القطاع عام 2001، بينما استشهد أخوه الأصغر واثنان من أولاد أخيه في محرقة غزة بداية العام الحالي، فيما أصيب ابنه البكر بلال وبترت قدمه أثناء مقاومة لاجتياح شمال قطاع غزة.
وريان له ستة أولاد ذكور، وست بنات، وحفيدان، وكان يحفز أبناءه وأحفاده للدفاع عن فلسطين والقدس الشريف، واستكمال مسيرة التحرير.


وعالم حديث


وشغر ريان عضوية المكتب السياسي في حركة حماس لعدة دورات متتالية حتى استقال العام الماضي من عضوية المكتب السياسي للتفرغ للبحث العلمي.وكان الشهيد قد أوشك على أن ينتهي من شرح لصحيح مسلم من عدة مجلدات، وسلسلة عن أنساب عائلات فلسطين.

وتلقى ريان تعليمه الأكاديمي في السعودية والأردن والسودان، فقد حصل ريان على شهادة البكالوريوس في أصول الدين من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض عام 1982، وتلقى العلم الشرعي على أيدي علماء الحجاز ونجد، ثم حصل أيضا على شهادة الماجستير من كلية الشريعة بالجامعة الأردنية بعمّان، عام 1990 بتقدير ممتاز، وبعد ذلك نال درجة الدكتوراه من جامعة القرآن الكريم بالسودان عام 1994.
وعلاوة على بحوثه العلمية المنشورة؛ فقد كانت للقيادي مساهمات اجتماعية بارزة، خاصة في تمكين عشرات الأكاديميين الفلسطينيين من الحصول على منح لدراسات الماجستير والدكتوراه في الجامعات العربية والإسلامية في شتى التخصصات، كما يعدّ أحد رجالات الإصلاح الاجتماعي في قطاع غزة، من خلال ترؤسه "لجنة إصلاح ذات البين ولم الشمل".
وقد سبق أن عمل الشيخ ريان إماما وخطيبا متطوعا لمسجد الخلفاء بمخيم جباليا للاجئين خلال الأعوام من 1985 وحتى 1996، وقد اعتقلته سلطات الاحتلال مرارا ليمكث في سجونها نحو أربع سنوات، كما اعتقلته أجهزة الأمن السابقة التابعة للسلطة الفلسطينية وأخضع فيها للتنكيل والتعذيب.

رسالة من براء نزار ريان الى والده الشهيد نزار ريان



اليوم نبكيكم .. وكلّ يوم!
والدي الحبيب،
سلام إليك وعليك،
بقدر اشتياقي وتحرّقي للقياك،
وما في القلب لك من وجد وشوق!
أحبّ أن أخبرك بداية أننا نحسن بالله الظنّ،
وأننا نراكم بإذن الله في جنان الخلد تتنعّمون،
على الأرائك تنظرون،
ونظنّ أن الله سبحانه أكرمكم بكرامة الشهادة في سبيل الله،
وأجزل لكم المثوبة في الدنيا والآخرة بإذنه،
ولكننا نشتاق إليكم ولذلك نبكيكم!تنقصنا نظراتكم،
وتعوزنا ضحكاتكم،
نفتقد ابتساماتكم،
ونشتاق إلى جلساتكم،
وتحنّ نفوسنا إلى جمعاتكم،
لا سيّما في مثل هذا اليوم..
الله وحده يعلم كم افتقدناكم، وكم بكيناكم..
لكننا من أجلكم ومن أجل رسالتكم،
وقبل ذلك رغبة فيما أعدّ الله للصابرين، تجلّدنا ما استطعنا، وتحمّلنا فوق ما يمكننا،
لكننا يا أبي بشر من لحم ودم..
لذلك يا أبي نبكيكم
!لطالما تمنّيت لك الشهادة في سبيل الله،
ولم أكن أرضى لك إلا أن تموت شهيدًا،
وما كان لمثلك إلا أن يموت هذه الميتة الشريفة،
لكنه كان رحيلًا مبكّرًا وأليمًا..
وهذا ما يبكيني!
كما أنني كنت أفرح بإخوتي الصغار،
ولطالما فرحت بهم،
استبشرت بميلاد كل منهم،
وأذكر لحظات خروج كل منهم إلى الدنيا كما لو أنها أمامي،
وقد كنت أحلم فيما أحلم أن يكون لك من الذرّية ما ينافس عائلة كاملة،
وقد أنعم الله عليك وآتاك،
وأكرمهم بما هو أفضل من ذلك ..
لكننا –بضعفنا وقصور تفكيرنا- كنّا نحبّ أن يظلّوا بيننا ..
لذلك يا أبي نبكيكم!
لقد أسعدني أن ختم الله لك وللوالدة وللخالات بالشهادة،
وأكرمكم بهذه الكرامة بعد طول جهاد وبذل،
وأحمل عن كل منكم ذكريات تصلح لي زادًا حتى ألقاكم،
لكن إخوتي الصغار يا أبي لم أسعد برؤيتهم كما كنت أتمنّى..
والخيرة فيما اختاره الله ..
لكنني أبكيكم!
في رمضان يا والدي ..
كنّا نفطر سوية في بيتكم العامر،
تعوّدنا على ذلك يا أبي، وكان صعبًا أن نفطر وحدنا،
لكننا آثرنا بعد رحيلكم أن نفطر سوية أيضًا وبما تبقى منّا في بيوت بعضنا بالتناوب..
وشعرنا أن الله مبارك فينا، وأننا بإذن الله كثرة .. لكننا مجرّد حفنة منكم..
فلذلك نبكيكم!
ولدك بلال يا أبي.. إنه يشبهك كثيرًا..
إنني أذكر إذ قلت لك يومًا: لن تجد أخًا مثل بلال لإخوته أبدًا! فتبسّمتَ تبسّم الرضا..
لقد كان عند ثقتك يا والدي، إنه يحبّ لنا ما يحبّ لنفسه وأكثر.. ويؤثرنا على نفسه وأكثر، ويفدينا بروحه وأكثر!
إنه باختصار –وعلى قرب السنّ- والدنا بعدك،
لكننا لا نرى لك مثيلًا ولا عنك تعويضًا أنت وسائر الأحباب
ولذلك نبكيكم!
لكن حسبي أنه يشبهك يا أبي وقد عزّ أشباهك،
ولذلك أسمّيه الشيخ بلال، تيمنًا بك، ودعاء لله بأن يسير على طريقك..
لكنه نفسه محتاج إليك ..
فلذلك أبكي وسأظلّ أبكيكم!
محمّد يا والدي كبر وشبّ، وهو قوي مدبّر.. هو يدنا ورجلنا يا أبي.. ورجل المهمات الصعبة فينا.. رزقنا الله منه نزارًا بعد استشهادك،
وفرحنا بهذا الوافد الوسيم الجسيم،
لكننا كنا نحبّ أن تشاركونا فرحته..
ولذلك نبكيكم!
حملت زوجتي يا والدي، وكان المفاجأة أن في بطنها توأمًا! فبكيت كثيرًا، لأنني كنت أعلم أنك ستسرّ بذلك كثيرًا..
شعرت بأن الله يعوّضنا وقرّت بذلك أعيننا،
لكننا نفتقد مشاركتكم ولذلك نبكيكم..
قالت الطبيبة إن في بطنها بنتين،
فرجوت أن يكونا في طفولتهما كحليمة وريم،
وفي صباهما كآية ومريم،
وفي شبابهما كأم عبد الرحمن وأم أسامة،
وفي ختامهما كأمي وأم علاء!
ونرجو من الله أن يبارك فينا،
ولكننا سنظلّ نبكيكم!
ابنتك ولاء يا أبي، صابرة ثابتة.. كما ربّيتها تمامًا..لقد فتحت لها باب الثلاجة على ستة عشر،
هم أحبّ الناس إليها وأقربهم منها، فما قالت كلمة لا ترضي الله .. ولا ترضيك..
إنني إذا أردتُّ مدحها، أو سألني أحد عنها، قلت: هي ابنة أبي وأمّي..إنها تشبه أمّي كثيرًا يا أبي، وفي ذلك لنا عزاء..
لكننا إذا رأيناها افتقدنا أمّنا! وهذا ما يجعلنا نبكيها ونبكيكم!
جدّتي أم زياد صابرة كما عهدتها يا والدي، وهي التي قدّمت من أولادها أكثر من عشرين،
وأهلك يا أبي أهلنا كما كانوا على عهدك، وأكثر بعدك.إننا سعداء بهم يا أبي،
لكنّ رحيلكم –ولستم قلة كيفًا وكمًا- قصم ظهورنا وظهورهم، لذلك يبكونكم، ونحن معهم نبكيكم..
اعتكفنا العشر الأواخر في الخلفاء، كان الاعتكاف حزينًا يتيمًا،
لم يغادر شباب الخلفاء سنّتك فصلّوا كلّ ليلة عشرة أجزاء في عشر ركعات،
وختموا في العشر الأواخر ثلاث ختمات،
لكننا افتقدناك وكاد قلبي يقف إذ دخلت قائمة الشهداء المدعوّ لهم في كل وتر!
وزادني حزنًا أنني لم أجد غسان ولا عبد القادر حولي وعزّ عليّ ألا يكون لي إخوة صغار،
فبكيتكم كثيرًا .. وطالما سنبكيكم!
أخوك إسماعيل هنية..إنه أخوك فعلًا يا أبي، وقد كان كما أخبرتني ذات ليلة إذ قلت لي: إن نفس "أبو العبد" فينا كنفس الشيخ أحمد ياسين!
إنه يحبّ الشهداء يا أبي وذوي الشهداء،
ويتبع سنّة حبيبنا محمّد عليه السلام التي كنت تنشرها،
وتصدح في دروسك بقوله صلى الله عليه وسلّم: "إني أرحمهما.. قتل أخوهما معي"!
لقد كان عمّنا يا أبي، ولولا أننا لا نرى لك بديلًا لكان أبانا،
وزارنا يا والدي مرارًا،
واستحلفنا بالله إن احتجنا شيئًا أن نعتبره أقرب الناس،
وقد كان كذلك يا أبي،
وقد سعدت بثقتك، وفرحت بفراستك.إنه يحترمنا إذا كلّمنا، ويكرمنا إذا قابلنا، ويعاملنا أفضل مما لو كنت حيًا، وقد أعجبنا ذلك منه كثيرًا،
واطمأنّت إلى ذلك قلوبنا
لأن قائدًا يحمل كلّ هذا الوفاء هو أهل لتوفيق الله عزّ وجلّ!
قلة يا والدي يتحلّون بالوفاء في هذا العالم، وأقلّ منهم يحملون ما يحمله أبو العبد منه!كم أسعدنا كرمه، وأقرّ أعيننا وفاؤه،
لكننا يا والدي حين نرى ذلك منه نتذكّر طيب أخلاقك،
وعلوّ سماتك، فتثور لواعج الشوق لدينا، فنبكيكم!
أخوك فتحي حمّاد يا أبي،
إنه أيضًا أخوك.. وقد بكاك ونعاك، وأحسن رثاءك إذ رثاك..إنه كثيرًا ما يذكرك، وطالما افتخر بك،
وقال: إنه –يعنيك يا أبي- أول شيخ لي في الدعوة، وأول مسئول في التنظيم..اتّصلت به بعد تولّيه الوزارة ثلاث مرّات،
فقال في كل مرة: تعال الآن!وكان في إحداها متعبًا وفي أخرى مشغولًا، فلم يعتذر وقد كان بوسعه الاعتذار، وجلس إليّ ذات مرة وقد غادر اجتماعًا، فبقي معي، واحتفى بي وأكرمني، ولم يعد إلى اجتماعه حتى استأذنت، ففرحت به وسعدت، وفرحت له ثانية إذ أكرمه الله بمولودين ذكرين سمى أحدهما باسمك،
والآخر باسم قرينك الشهيد القائد سعيد صيام.لكننا يا والدي كثيرا ما رأيناك معه، وإذا رأيناه تذكّرناك..
فمن أجل ذلك نبكيكم!
أخوك أبو الناجي الخضري يا أبي.. إنه أيضًا أخوك بحقّ..
لا يكلّمنا إلا ودموعه في عينيه، وإنه يخجلنا بتواضعه وبالغ كرمه،
وقد كانت المؤسسة التي جمعتك به –ولعلّها بعض ما يجمعك به- مؤسسة كريمة ووفية أيما وفاء.إن إخوانك في "الجامعة الإسلامية" –وعلى رأسهم أخوك أبو الناجي- كانوا نموذج أخلاق،
وقد احتفوا بنا يا والدي، وأكرمونا بعدك،
وأخلفوني مكانك،
ثمّ لم يفوّتوا فرصة لتكريمك والإشادة بك.وقد أطلقت كلّيتك يا والدي مؤتمرًا علميًا يحمل اسمك،
يرأسه أخوك الدكتور نسيم ياسين، فبوركت الهمم.
لقد أسعدني ذلك يا والدي وواساني، لكنني كنت أحبّ أن أكون شريكك لا وريثك!
لذلك بكيتك إذ دخلت مكتبك،
وطالما سأبكيك!
الرجل الأبيض الخلوق الذي عرّفتني إليه في المكتبة يا أبي، وجلس إليك خمس ساعات متواصلات.كنتَ أخبرتَني أنه صاحب خلق وذوق، لكنني انبهرت بالواقع إذ عايشته، وقد علّمتني يا أبي أنه "ليس الخبر كالعيان".إنه من أوفى إخوانك إليك،
وأحسنهم معاملة لأهلك..
يعاملنا بما لا يعامل به كبار القوم،
وأصحاب المراتب والرتب،
ويخجلنا إذ نقول له: يا عمّ، فلا يقول إلا: يا أخي!إنني يا أبي إذ أجالسه أتخيّل كم من الكرام فاتني أن تعرّفني بهم،
وكم من أصحاب المعادن الثمينة مثل هذا الكريم قصّر العمر دون أن أتعرف بهم،
لذلك يا أبي لا أنفكّ أبكيكم!لن نفتح اليوم عزاءً لأنك علمتنا أنه بدعة محرّمة،
وسنذهب نصلّي العيد نفرح مع المسلمين،
لكنني يحزنني ألا تكون خطيبنا اليوم كما تعوّدنا..
ويفطر قلبي أنني لن أبدأ جولة العيد ببيت أهلي ..
لذلك يا أبي لا تلمني إن بكيتكم وبقيت الدهر أبكيكم!
إنني يا أبي لو انطلقت أحدّثك عن أسباب بكائنا إياكم،
لا سيّما والتكبيرات تصدح صباح هذا العيد،
لن أنتهي.. لكن هذا بعض ما يحضرني وتخنقني عبراته،
ولا أعلم إن كان سيعجبك هذا منّي أم لا.. لكنني لا أقول لك إلا كما كتبت لك ذات مرّة في حياتك:
يــا والدي إن لأعــلم أنــه ***** قد لا تســرّ بشـعري الدفـّاقِ
فاغفر –رعاك الله- كم من شاعر ***** رفض السكوت بثورة الأشواقِ

الاثنين، 19 أكتوبر 2009

أحمد يا حبيبي.. سلام عليك



سيد الكونين، جد الحسنين، ابن عبد الله..

تواضع في نفسك وأنت تقرأ عنه، واستشعر المهابة حين تكتب عنه.. تصور أن تكتب عن نبي!، تذكر أخطاءك وذنوبا اقترفتها خلف باب مغلق، ثم خرجت بعدها بوجه محايد وعينين خائنتين!.

زمان كان الإمام مالك إذا حدث عن رسول الله صام يومين، وأفطر على التمر والحليب، ثم يتوضأ، ويتعطر، ويشحب وجهه ويخطفه العشق!، زمان كانوا يتلون القرآن، وكأنهم يسمعونه –في كل مرة- كأنها أول مرة.. كلام الله الذي يخاطب –في مجمله– النبي، تصور أن الله يكلم –بكلامه– بشرا، مخصصا بالفضل، مذكورا بالمديح، مقرونا بالثناء.

تصور أن الله الجليل الذي خلق مائة مليار مجرة يخص بشرا بالحديث له وعنه، تصور فرحة نوح والخالق العظيم يتوجه إليه بالخطاب {قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليكْ}، ويقول للخليل إبراهيم {يا إبراهيم أعرض عن هذا}، ويقول لموسى: {يا موسي إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي}.. تصور فرحة الأنبياء بخطاب الجليل العزيز لهم، وهو سبحانه المستغني عن عبادة العباد، ثم حاول أن تتخيل بعد ذلك أن الله تعالى لم يخاطب رسول الإسلام باسمه قط، وإنما ( يا أيها النبي)، ( يا أيها الرسول).. تأمل ثم حاول ألا يغشى عليك.


حديث حب


وأنت بمجهودك البشري، وأسلوبك الرديء، وفقرك اللغوي تحاول أن تكتب عنه، توجه له التحية، تعبر عن مقامه العلي، فإن الحروف تصرخ صرخة العجز المدوية، وتكاد تقول لك: ماذا تريد؟، هل تتساءل عن مقامه؟، أنت تقف أمام شاطئ البحر الأعظم، تظن أنك غرقت ولم يبتل منك سوى أظفر أصبعك الصغير، وتقول إنك شربت النهر بينما أنت لم ترشف منه إلا قطرة واحدة!.

استمع إلى قوله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي}، {ورفعنا لك ذكرك}، {فإنك بأعيننا}، بينما قال لكليمه موسى عليه السلام {ولتصنع على عيني}، وقال لنبينا: {ومن آناء الليل فسبح، وأطراف النهار لعلك ترضى}، بينما كان موسى يقول: {وعجلت إليك ربي لترضىْ}، كانت شحنة حب للنبي محمد هائلة.. في حب وإشفاق: {طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى}، وحتى حينما يعاتبه لا يتوجه إليه مباشرة بالحديث، وإنما يستخدم ضمير الغائب {عبس وتولى}.

عشرات، ومئات، وآلاف الآيات، بل القرآن كله حديث حب للرسول الكريم، وبيان للناس كافة عن مقامه العظيم، لا نقدر أن نحيط بالأسباب الكاملة لهذا الاصطفاء، حقيقة هذا في علم الله الأعلم بمن خلق، وكيف خلق.

أحاول أن أتأمل سيرته، وأستشعر الدهشة من كثرة أحزانه، ثم أتذكر هوان الدنيا عند الله (لو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء)، يعطيها –الدنيا– المؤمن والكافر، بل ويمد للكافر أسبابها ليزداد إثما {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء}.

تألم رسول الله، وبرغم أنه موصول بالسماء، وليس كهيئتنا، ويبيت عند ربه يطعمه ويسقيه، فإنه حزن كحزن البشر، وقاسى مقاساة الناس، جاع أشرف خلق الله حتى لم يعد أمامه إلا ضغط الحجارة على بطنه لتسكين الجوع، وتطالب نساؤه بزيادة النفقة فلا يملك سوى خيار التسريح.

والفقر نفسه لا يقارن بمرارة الفقد التي عاناها منذ عرف اليتم في بطن أمه، وأبوه عبد الله يودع الحياة، ثم لوعة فقد الأم التي استمرت حتى ختام عمره، لم يكن الصحابة يتصورون أن نبيهم المبارك يحمل كل هذا الحزن؛ لذلك اقشعرت جلودهم وتسمروا في أماكنهم حينما سمعوه ينشج على قبر أمه وقد قارب الستين.. ترى أي لوعة عرفها اليتيم الهاشمي صاحب العينين الحساستين حينما أودعوا أمه –أمام عينيه– التراب.

وكأن الفقد قدر عليه، يموت جده الذي رباه، والغلام اليتيم واسع العينين لا يعرف لماذا يحدث له هذا دون باقي الأطفال؟، ولم يشعر إلا وكف عمه أبي طالب تسحبه إلى داره ليكفله ويؤويه، جميل سوف يرده فيما بعد لابنه علي، وهل يكون من الكريم إلا الكرم؟.


اسلموا تسلموا


ويكبر محمد وينزل على قلبه الأمر الجليل، ومطلوب منه أن يبلغ البشر أمانة تنوء بها الجبال، وأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وها هو ذا محمد ينظر إلى السماء فيجدها واسعة، وإلى الجبال فيراها هائلة، وإلى الأرض فيراها شاسعة، مطلوب منه أن يبلغ دعوة التوحيد إلى الشعوب البعيدة، والقبائل المتناثرة والبدو الرحل.. مطلوب منه أن يدعوهم، ويجادلهم، ويصبر عليهم، ويتحمل أذاهم، ويعاود الكرة تلو الكرة، بشفقة أب يرى ابنه الصغير مصرا على الذهاب نحو الهاوية، لا يستمع إلى صيحات التحذير.

وفي وسط هذا البأس والإهانة، والتكذيب والتعذيب، وهو النبيل الذي لم يطلب أجرا، صاحب الوجه الذي لم يره أحد قط إلا وعرف أنه ليس بكذاب، والنبي يطلب من قومه ما ليس بحاجة إلى طلب؛ التماس الجمال بالتوحيد، ونبذ القبح الممثل في عبادة الأصنام: يا قومي، يا أبناء العم، أسلموا تسلموا، لم يطلب محمد مالا ولا مجدا.. فقط كلمة يقولونها: لا إله إلا الله.. بديهة الكون التي ينطقها طيلة الوقت بكل وسيلة ممكنة، انظروا حولكم، إلى السماء الصافية، والجبال العالية، والإبل الصابرة، والزرع يخرج نبته فيبتهج، والأغنام تغثو بصوتها الرفيع، والمطر يبدأ رحلة الحياة.

الكون يعرف خالقه، أسلموا تسلموا، قولوا لا إله إلا الله، الكون يرددها طيلة الوقت وآذانكم مغلقة، فقط افتحوا آذانكم لنشيد الكائنات، للحجر يسبح بحمد خالقه، للظل يسجد لمولاه، للمطر ينقش قصة حب رائعة، الكون يتحدث بلغة الحب وأنتم –أيها المساكين– عمي صم بكم، وحدكم لا تبصرون، وحدكم لا تسمعون، وحدكم لا تنطقون.

قولوا: لا إله إلا الله، هل هي ثقيلة إلى هذا الحد.


فوق حزن البشر


وسط التعب والمعاناة يفقد محمد أحبابه، في البدء أطفاله الصغار، القاسم والطيب والطاهر، طفل بعد طفل، كلهم ذكور، وصناديد قريش يشمتون به: محمد يموت أولاده الذكور ونحن عندنا البنون، محمد أبتر ونحن يبقى ذكرنا، نحن أفضل منه.. ويحزن محمد متعجبا من قسوة هؤلاء القوم، ثم ينزل وحي السماء يواسيه ويراضيه، ذكر هؤلاء يبور، لا يبقى إلا مصحوبا باللعنة، أما ذكرك فمقرون بعبارة التوحيد، عند رفع الآذان، في التشهد عند كل صلاة، في قلوب المؤمنين.

وفي عام الحزن حين ماتت زوجته، لم يكن يومًا بحاجة إلى خديجة مثل حاجته إليها اليوم، ها هي الحبيبة تذهب، الزوجة، الصديقة، الحبيبة، والقلب الرءوم، صدقته حين كذبه الناس، وأعطته حين حرمه الناس، ولم يعرف طعم الأبوة إلا وهي الأم، -باستثناء ابنه إبراهيم الذي أنجبه من مارية- أي حزن ألم به وهو يرمق جثمانها الساكن الصامت، أي ذكريات عبرت ذاكرته هو الذي لم يعرف امرأة غيرها، أي حزن استشعره لحظتها وهو الذي لم ينس ذكراها بين أحضان زوجة شابة نضرة، تستشعر الغيرة حين تجده يتلمس ذكرى زوجته الراحلة، إذا سمع صوتا يشبه صوتها قال: اللهم هالة! (أختها)، ويكرم صديقاتها القديمات، وتدمع عيناه حين شاهد قلادتها التي أرسلتها ابنته زينب في فداء زوجها، وكان وقتها في صفوف المشركين.

محمد بن عبد الله، حزن فوق حزن البشر، يحزن المرء بمقدار الرحمة في قلبه، وهل هناك رحمة أوسع ممن قال عنه خالقه: {بالمؤمنين رءوف رحيم}، تصور حزنه وعمه أبو طالب يموت، ذكريات عمر بأكمله، والعم الحبيب يحوط بالرعاية والحنان، ثم هذا العم يأبى أن يقول عبارة التوحيد، ومحمد يتوسل إليه أن ينطقها، كلمة واحدة يا عم أحاج لك بها يوم القيامة، ورءوس الكفر حول رأسه يحيطون به، ومحمد يعلم معنى الجنة والنار؛ لأنه رآهما رأي العين، لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، ولخرجتم إلى الطرقات تجأرون إلى الله.ويموت العم، وينفذ القضاء، وتضيع الفرصة الأخيرة، يغرق الدمع عينيه الحساستين وهو يمضي باكيا مدبرا، قبل أن ينزل الوحي الكريم على قلبه يسري عنه ويسليه {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} .

وحتى حينما ابتسمت الدنيا، وتحقق النصر المؤزر في غزوة بدر، وبرغم أن الرسول لم يخرج لحرب وإنما لقافلة من قوافل قريش؛ فقد أطبق العدو، بالفرسان والرماة والكماة، كان يعرف أن مصير الدعوة سيتحدد خلال الساعات المقبلة، لم يكن يهمه الموت، بل عبارة التوحيد، وذكر الله الخالق المجيد أن يعبد في الأرض، ويعلن الجمال نصره النهائي، وتذهب عبادة الأصنام.. يتأمل جيشه القليل، وأصحابه الضعفاء المتعبين البسطاء شاحبي الوجوه، فتعتصره الشفقة.. ينظمهم، ويدعو لهم، ويوصيهم بالاستبسال، يذكرهم بمملكة السماء، ثم يخلو إلى ربه داعيا، باكيا، ملحا في الدعاء، وصديقه الصِّديق يتوسل إليه أن يرأف بنفسه، فإن الله منجز له ما وعده.

ويحدث النصر، وتنتصر القلة القليلة بإذن الله، ويرى الرسول مصارع المستكبرين، الذين عذبوا الضعفاء، وتوهموا أنهم يملكون الأرض ومن عليها، وأنهم قادرون على خنق الدعوة، وإعلاء القبح، وتشويه الحق.. فإذا بذؤابة قريش جثثا منتفخة ملقاة في القليب.


الدنيا بغير رسول الله


يعود الرسول والرضا يملأ أركان قلبه الكبير، يتمتم بحمد الله ويستغفره، ومن بعيد يلوح نخيل المدينة، والبيوت البيضاء، والقلوب البيضاء، والمؤمنون الصادقون، وفي لحظة النصر والرضا، إذا به يسمع الخبر: موت ابنته رقية.. أي شجن أحس به رسول الله والقوم يساوون التراب فوق قبر ابنته، وأختها فاطمة على القبر تبكي وتنتحب، فجعل الرسول يمسح عينها بطرف ثوبه ويقول: "مهما يكن من العين ومن القلب فمن الله والرحمة، ومهما يكن من اليد واللسان فمن الشيطان".

أيها الأب الجليل، أيها النبي العظيم، أيها الصابر على قضاء الله هنيئا لك تلك المنزلة!.

وفي الأعوام القادمة يتكرر الفقد، ويتكرر الصبر، ويعظم الأجر، تموت ابنته الثانية أم كلثوم، بعدها تموت ابنته الكبيرة زينب حبيبة أبيها، يموت عمه المحبوب حمزة القريب من قلبه بعد تمثيل وحشي ينكره الدين وتأباه أعراف العرب، أي غضب استشعره النبي وهو يرى جثمانه المسجى وبطنه المفتوح، وقطعة من كبد ملقاة جانبه طالما رطبها ذكر الله.يغضب ويتوعد المشركين، ثم يهدأ غضبه مع نزول الوحي على قلبه الكبير {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين}.

ويصبر الرسول، حتى في أعظم موقف يتعرض له أب، ابنه إبراهيم الذي جاءه بعد أن تجاوز الستين، وكان فرحه بالولد أكبر من أن يوصف، سماه على اسم أبي الأنبياء إبراهيم آملا أن يكون له نفس الامتداد، فإذا بالموت يخطف الطفل الصغير، وإذا بالموت يخطف الفرحة الكبيرة.. ويبكي محمد صلى الله عليه وسلم ضياع الطفل الأخير، وأصحابه متعجبون غافلون عن حزنه الكبير، يمسح الدمع ويناجي الفقيد: "إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا".. كلمات سوف يخلدها التاريخ لرجل حمل في قلبه أحزان البشر، وصادف من العناء ما لم يلقه رسول، عرف كل صنوف الألم، وبقي له قلب حامد شاكر صابر مقبل على ربه.

الأرض بغير هواء، السحاب بلا ماء، السماء بلا قمر، الحدائق بغير زهور، الطعام بلا مذاق، الدنيا بغير رسول الله، أي قبح كان سيصبح عليه العالم لولا هاشمي يتيم عرَّفنا الله من خلال وحي أنزله على قلبه، تلك المعرفة التي بدونها لا نرقى إلى مرتبة الدواب.

الدنيا تنادي، الكون ينادي، الشمس تنادي، القمر ينادي، النجوم تنادي، وقلوبنا معها تنادي:-


أحمـد يا حبيبي؛ سلام عليك.
-----------

الاثنين، 31 أغسطس 2009

شاب من غزة يحفظ أسماء خمسة آلاف شهيد فلسطيني




"بداية مشواري في حفظ أسماء الشهداء وتواريخ استشهادهم كانت في اليوم الذي قتل فيه الاحتلال الإسرائيلي الطفل محمد الدرة في حضن والده.. أحفظ الآن اسم أكثر من خمسة آلاف شهيد، وأمتلك ما يزيد على الثلاثة آلاف صورة لهم" ، هكذا تحدث الشاب الغزاوي طارق درويش 21 سنة لوسائل الإعلام الفلسطينية المختلفة الشاب استرجع ذكرياته مع شهداء فلسطين الذين قضوا خلال انتفاضة الأقصى والعدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة.


بيت درويش المتواضع في مخيم المغازي وسط قطاع غزة أصبحت تؤمه عشرات وسائل الإعلام وعشرات المصورين للالتقاء به وتصويره مع أرشيف الشهداء.


ويقول الشاب الفلسطيني: أحب الشباب الذين استشهدوا في سبيل الله والوطن لأنهم دفعوا أغلى ما يملكون. ولذلك أحفظ أسماء عدد هائل منهم وتواريخ وأماكن استشهادهم وكيفية ارتقائهم إلى رحاب الخالق.


ويضيف درويش: إضافة إلى الأرشيف الذي أحتفظ به في ذاكرتي جمعت أكثر من ثلاثة آلاف صورة للشهداء أقلبهم بين فترة وأخرى حتى يبقوا محفورين في مخيلتي (...) أنا بالفعل أعشق هؤلاء الشهداء. وعن الآلية التي حفظ فيها هذا العدد الكبير من أسماء الشهداء يوضح أنه عندما ينظر إلى صورة أي شهيد أو يسمع عنه في وكالات الأنباء يحفظ اسمه وتاريخ استشهاده تلقائياً دون أي عناء يذكر.. ويتمتع الشاب ذو البشرة السمراء بعلاقات اجتماعية قوية، فيعرفه الكثير من شباب قطاع غزة حيث يحتفظ في ذاكرة هاتفه النقال بأرقام أكثر من 1400 شخص من مختلف محافظات القطاع.


وعن طريقة جمعه للصور بين درويش وهو ينظر إلى عدد منها أنه كان يذهب إلى بيوت العزاء ويطلب صور الشهداء من ذويهم.


ويروي درويش قصة طريفة استذكرها وهو ينظر إلى الصور قائلاً: ذهبت لأحد بيوت الشهداء لأحصل على صورة، فقابلني شقيقه فطلبت منه صورة لأخيه فقال لي أنت طارق درويش ؟، فأجبته صدقت هل تعرفني؟ فأردف لا لكن شقيقي سمع عنك وكان يتمنى أن يقابلك وأوصاني أن أعطيك عشر صور.


ولم يخفِ الشاب الغزي بعض الصعوبات التي واجهها من بعض أهالي الشهداء، عندما يسألونه لماذا تريد هذه الصور؟!. ويأمل درويش بتطوير أرشيفه ليصبح كتاباً يتناول فيه أسماء الشهداء وجوانب من حياتهم الجهادية.


وعن أسماء شهداء الحرب الأخيرة على القطاع نظر درويش إلى السماء، وتنهد ببطء وقال: رحمهم الله لقد فقدت خلال الحرب 26 صديقاً كنت أجتمع معهم دائماً وأفطر عندهم في رمضان الماضي وأزورهم في أيام العيد. ويضيف: ابتعت دراجة نارية لأزور أهالي شهداء الحرب الأخيرة على القطاع جميعاً وأطلب صورهم من أهلهم، وسأقوم بذلك الشهر المقبل إن شاء الله.

الثلاثاء، 4 أغسطس 2009

سيد قطب يبشرنا..



قد يبطئ النصر لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها ، ولم يتم بعد تمامها ، ولم تحشد بعد طاقاتها ، ولم تتحفز كل خلية وتتجمع لتعرف أقصى المذخور فيها من قوى واستعدادات . فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكاً لعدم قدرتها على حمايته طويلاً!

وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة ، وآخر ما تملكه من رصيد ، فلا تستبقي عزيزاً ولا غالياً ، لا تبذله هيناً رخيصاً في سبيل الله.

وقد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها ، فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر . إنما يتنزل النصر من عند الله عندما تبذل آخر ما في طوقها ثم تكل الأمر بعدها إلى الله.

وقد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله ، وهي تعاني وتتألم وتبذل؛ ولا تجد لها سنداً إلا الله ، ولا متوجهاً إلا إليه وحده في الضراء . وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عندما يتأذن به الله. فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها به الله.


وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته فهي تقاتل لمغنم تحققه ، أو تقاتل حمية لذاتها ، أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها . والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله ، بريئاً من المشاعر الأخرى التي تلابسه.


وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل شجاعة والرجل يقاتل ليرى . فأيها في سبيل الله . فقال : « من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ».


قد يبطئ النصر لأن في الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير ، يريد الله أن يجرد الشر منها ليتمحض خالصاً ، ويذهب وحده هالكاً ، لا تتلبس به ذرة من خير تذهب في الغمار!


وقد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماماً . فلو غلبه المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصاراً من المخدوعين فيه ، لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله؛ فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة . فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشف عارياً للناس ، ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية!


وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعدُ لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة . فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر لها معها قرار . فيظل الصراع قائماً حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر ، ولاستبقائه!


من أجل هذا كله، ومن أجل غيره مما يعلمه الله ، قد يبطئ النصر ، فتتضاعف التضحيات ، وتتضاعف الآلام . مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية.

الاثنين، 27 يوليو 2009

قائد "كتائب عز الدين القسام" شهاب الدين عبد العزيز النتشة


تمر علينا اليوم الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد قائد "كتائب الشهيد عز الدين القسام" في الخليل الشهيد شهاب عبد العزيز محمد إبراهيم النتشة، الذي استشهد فجر السابع والعشرين من شهر تموز (يوليو) 2008 بعد محاصرته في أحد المنازل في مدينة الخليل.


ما إن شاهد مجازر الاحتلال الصهيوني في قطاع غزة بحق الأطفال والنساء حتى انتفض لينتقم للثكلى والجرحى والأسرى؛ فكانت عمليته المدوية التي سجَّلت نقلة نوعية للمقاومة الفلسطينية في بلدة ديمونة المحتلة جنوب فلسطين المحتلة، فسقط عشرات الصهاينة بين قتلى وجرحى بعدما كان العقلَ المدبِّرَ للعملية التي وقعت صباح الرابع من شباط (فبراير) 2008 ونفذها القساميان محمد الحرباوي وشادي زغير من مدينة خليل الرحمن.رحل المجاهد العنيد الذي أرهب الصهاينة وزرع الرعب في قلوبهم في كل مكان.. باع روحه رخيصة لله والله اشترى ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ﴾ (التوبة: من الآية 111)


الميلاد والنشأة


وُلد الفارس القسامي القائد شهاب عبد العزيز محمد إبراهيم النتشة في السادس عشر من شهر كانون الأول (ديسمبر) لعام 1983م في مدينة الخليل التي تفخر بأنها أنجبت ذلك القائد الفذ والمقاتل الشرس، وترعرع الشهيد بين أحضان أسرةٍ مسلمةٍ ملتزمةٍ ليكون منذ صغره ملتزمًا بـ"مسجد الأنصار" الذي كان ناشطًا فيه من ناحية الحلقات الدعوية والاعتكافات وحتى كرة القدم التي عرف عنه أنه من أبرز لاعبي فريق شباب المسجد.


مسيرته التعليمية


درس الشهيد المرحلتين الابتدائية والإعدادية في "مدرسة الملك خالد"، وانتقل بعدها ليدرس في "المدرسة الصناعية" في مدينة الخليل في فرع الكهرباء، ونجح في الثانوية العامة، ثم انتقل للعمل في شركةٍ لبيع الأدوات الصحية والبلاط وما شابه.


رغم أنه لم يكن أكبر أشقائه الثمانية، بل الثالث بين أربعة إخوة وثلاث أخوات، لكنه كان جريئًا ومغامرًا لدرجة كبيرة فيقوم بما يخشى الآخرون القيام به في أي مكان، وعنيدًا في الحق ساعيًا إليه وإلى إحقاقه، ولا يرضى بأن يقع تحت الظلم.


منذ صغره مُنْتَمٍ إلى "حماس"


وكان منذ صغره منتميًا إلى حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، فعرف عنه نشاطه السياسي في الحي الذي يسكن فيه ومقاومته الاحتلال بالمشاركة في فعاليات الانتفاضة الأولى رغم صغر سنه، حتى إنه في إحدى المرات كان يحمل بندقيته البلاستيكية أمام منزل عائلته ويلهو بها، فبدأ جنود الاحتلال بملاحقته وهرب إلى المنزل فاقتحمه الجنود بحثًا عن ذلك المقاتل الذي ظنوا أن بندقيته حقيقية وسرعان ما اكتشفوا غباءهم وخرجوا من المنزل.


لكن لم يدروا أن هذا الطفل رجلٌ قبل أن يكبر الرجال؛ فكان طيبًا حنونًا يحب خدمة الآخرين وإن كان ذلك على حساب وقته وعمله، وبسيطًا جدًّا يحب المسجد والجلوس فيه أكثر مما يحب غرفته في المنزل، فكانت صلاة الفجر خطًّا أحمرَ لا يمكن أن يغيب عنها في "مسجد الأنصار" الذي ترعرع فيه.


سرية وكتمان


صفتا الكتمان والسرية كانتا هما الأبرزين في القسامي النتشة، حتى إنه اختطف في شهر أيلول (سبتمبر) 2005م وخضع لتحقيقٍ قاسٍ لمدة ثلاثة أشهر في مركز المسكوبية الصهيوني؛ تعرَّض خلالها لكافة أنواع التعذيب وخرج صامدًا دون أن ينطق بكلمة وحكم عليه بالسجن عشرة أشهر، حتى إن أهله لا يزالون يجهلون "التهمة" التي اختطف بسببها سوى أنه ناشط في "حماس"، وعندما سألوه عن سبب فترة التحقيق الطويلة قال: "أخلصوا النية لله عز وجل واستعينوا بالسر والكتمان لقضاء حوائجكم".


كان لا يعرف صفة المكر، بل مسامحًا يحب الخير للجميع، والابتسامة كانت رفيقة دربه لم تفارقه قط حتى عندما استشهد رغم أن جسده الطاهر كان أشلاءً لم يبق منها إلا القليل.


الجنة أقرب من حور الدنيا


وللشهيد أصدقاء شهداء؛ فرفاق الدنيا هم رفاق الجنة إن شاء الله؛ فكان الشهيد القسامي رفيق اقنيبي من أعز أصدقائه، حتى إنه كان يشاركه في أعماله ويساعده إن احتاج ذلك، والشهيد القسامي عز الدين مسك، والشهيد القائد القسامي عمر الهيموني الذي كان متعلقًا به لدرجة شديدة، حتى إنه بكى بشكل كبير عندما اغتالته قوات الاحتلال في مكان قريب من استشهاد شهاب، وعندما كانت والدة شهاب تحدثه عن الخطبة والزواج كان يقول إنه سيسمِّي أول ولد يرزق به باسم صديقه عمر ويلقب بـ"أبو عمر" لكن الجنة كانت أقرب له من حور الدنيا.


مهندس عملية ديمونة


وفي الرابع من شهر شباط (فبراير) عام 2008 هزَّ انفجارٌ ضخمٌ بلدة ديمونة المحتلة جنوب الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948م نفذه الاستشهاديان القساميان محمد الحرباوي وشادي زغير من مدينة الخليل، واعترفت قوات الاحتلال بمصرع صهيونية عالمة ذرة وإصابة 23 آخرين، بينما أثبتت الصور أن أربعة صهاينة على الأقل قتلوا نتيجة الانفجار الذي أكد خبراء المتفجرات الصهاينة أن صانع الحزام مهندسٌ دقيقٌ جدًّا.


واكتُشفت بعد ذلك أن الأيدي الطاهرة التي صنعت الحزام هي أيدي الشهيد القسامي القائد شهاب النتشة، ووصف ضباط الاحتلال صنع الحزام بأنه من نوعٍ متطورٍ ويحدث انفجارًا ضخمًا كما أخبروا أشقاءه الذين اختطفوا لاحقًا عندما بدأت رحلة مطاردته.


سبقاني إلى الجنة


ويوم ارتقى الشهيدان زغير والحرباوي بكى الشهيد القسامي بكاءً شديدًا لم يعهده أهله عليه، قائلاً: "رحمهما الله سبقاني إلى الجنة"، لكن ذويه ظنوا أنها كلمات شهاب الحنون الذي يتأثر بالمواقف الإنسانية رغم صلابته.


ولم تمضِ أيام بعد العملية حتى غادر منزل عائلته بحجة الانتقال للعمل في مدينة رام الله عدة أيام، وفي السادس عشر من شهر شباط (فبراير) اقتحمت قوات الاحتلال منزل عائلة الشهيد وعاثت فيه خرابًا وفسادًا واختطفت أشقاءه لمدة ثمانية أيام، وأخبرتهم أن شهاب مطلوب وعليه تسليم نفسه لأنه مسؤول عن صنع الحزام الناسف لمنفذي عملية ديمونة.


حتى ميليشيا عباس التابعة لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس اختطفت شقيقه أكثر من شهر ونصف للسؤال عن شهاب ومحاولة إقناعه بأن يدلهم على مكان اختفائه بحجة أنه كان ماهرًا في صنع العبوات الناسفة كما جاء ذلك في تقرير للقناة الصهيونية العاشرة.


للتنسيق الأمني دور كبير في اغتياله


ومن هذا المنطلق كان فرح رئيس وزراء حكومة الاحتلال المجرم إيهود أولمرت الذي افتتح جلسة حكومته الإرهابية بالإشادة بجهود قوات الاحتلال في اغتيال الشهيد النتشة.


وكان للتنسيق الأمني دورٌ كبيرٌ في اغتيال الشهيد النتشة من خلال البحث والمطاردة التي كانت يعاني منها الشهيد من قِبل ميليشيا عباس والسؤال الدائم عنه، ومطاردة قوات الاحتلال إياه واقتحام منزل عائلته بشكلٍ يوميٍّ.


ورغم ذلك فإن قوات الاحتلال فشلت عدة مرات في اختطافه أو اغتياله بعد اقتحامها ومحاصرة عدة منازل وهدمها في المدينة بحثًا عنه لتعود تجر أذيال الخيبة والفشل، حتى حان موعد الشهادة فجر يوم السابع والعشرين من شهر تموز (يوليو) 2008 بعد محاصرته في حي شعب الملح في مدينة الخليل داخل أحد المنازل قيد الإنشاء.


صمد أكثر من عشر ساعات


لم يتوقع جنود الاحتلال أن المقاتل الذي يتحصَّن داخل المنزل شرسٌ وعنيدٌ لدرجة أنه صمد أكثر من 11 ساعة أمام مئات الجنود والجرَّافات وعشرات القذائف وآلاف الرصاصات التي أطلقت باتجاهه، بينما كان هو بسلاحه وبعض العبوات يقاوم، حتى إنه أوقع عدة إصابات في صفوف جنود الاحتلال كما اعترفوا بذلك في صحفهم العبرية.


وأمام صموده أحضرت قوات الاحتلال والدته إلى المنزل للضغط عليه لتسليم نفسه لكنه رفض، ويقول شهود عيان إنه كان يردد بين فترة وأخرى وبصوتٍ عالٍ ومتحدٍّ: "إن كنتم رجالاً فادخلوا المنزل نقاتل وجهًا لوجه ونرى من فينا الرجل".


رحيل الفارس


وبعد هدم المنزل على الشهيد الذي وجد جسده أشلاءً وسلاحه تحوَّل إلى قطع بعدما رافقه سبعة أشهر من المطاردة التي عاش فيها متخفيًا عن أعين الاحتلال وعملائه وأذنابه، وارتقى الشهيد ووجد بين أصابع يديه التي كانت أشلاء أوراق للقرآن الكريم الذي كان يقرأ منه عندما كان محاصرًا في المنزل.


وحيث ترعرع ونشأ زفَّ إلى جنان الخلد وأقيمت صلاة الجنازة عليه كما سبقه في ذلك أصدقاؤه لتخرج جنازته من "مسجد الأنصار" باتجاه مقبرة الشهداء في مسجد الرباط في حي الجامعة ويرقد إلى جانب جده الذي كان يتمنى أن يدفن إلى جانبه لحبه الشديد إياه.


وذهب الشهيد القائد والخليل تبكي ابنها المغوار شهاب الذي سجَّل ملحمة جديدة من ملاحم العز والفخار في سجل البطولات القسامية، رغم أنه لم يكمل الخامسة والعشرين من عمره.

----------

المصدر: المركز الفلسطيني للإعلام

السبت، 25 يوليو 2009

القائد صلاح شحادة.. سبعة أعوام من الشهادة



كانت ليلة هادئة والسكون يعم قطاع غزة على غير العادة، وإذا به يطمئن على أولاده وأهل بيته قبل أن يتوضأ لقيام الليل، وأثناء دعائه بأن يتقبله الله شهيدًا كما تمنى طيلة حياته وإيمانًا بشعار "الله غايتنا، والموت في سبيل الله أسمي أمانينا" الذي غرسه في قلوب مجاهدي كتائب القسام إذا بقنبلة تزن طنًّا تسقط على بيته ليلقى الله شهيدًا مجاهدًا.

إنه الشيخ القائد صلاح شحادة مؤسس كتائب الشهيد عزالدين القسام الذراع العسكري لحركة المقاومة الإسلامية الذي حير قادة الكيان الصهيوني أكثر من 10 سنوات.

المولد والنشأة


ولد الشيخ الجنرال في مخيم الشاطئ يوم 24 فبراير 1952م وهو الأخ الأصغر لست بنات، ونزحت أسرته إلى قطاع غزة من مدينة يافا بعد أن احتلتها العصابات الصهيونية عام 1948م، حيث أقامت في مخيم الشاطئ للاجئين الفلسطينيين، وتزوج عام 1976م وهو أب لست بنات ولدت الأخيرة أثناء اعتقاله.


في عام 1958م دخل صلاح المدرسة الابتدائية التابعة لوكالة الغوث وهو في سن الخامسة، درس في بيت حانون المرحلة الإعدادية، ونال شهادة الثانوية العامة بتفوق في مدرستي فلسطين ويافا الثانوية بمدينة غزة.

التحق بالمعهد العالي للخدمة الاجتماعية في الإسكندرية، وفي السنة الثالثة بدأ التزامه بالإسلام يأخذ طابعاً أوضح، وأثناء هذه الفترة من حياته انخرط في صفوف جماعة الإخوان المسلمين، وسافر إلى مصر لمتابعة دراسته، وتواصل مع المجموعات الفدائية الفلسطينية الناشطة والتي كانت تخطط وتُنفِّذ أعمال المقاومة بعد حرب 1967م واحتلال أراضي الضفة والقطاع.

وعمل باحثًا اجتماعيًّا في مدينة العريش في صحراء سيناء، وعين لاحقًا مفتشًا للشئون الاجتماعية في العريش بعد أن استعادت مصر مدينة العريش من الصهاينة في العام 1979م،حيث انتقل للإقامة في بيت حانون واستلم في غزة منصب مفتش الشئون الاجتماعية لقطاع غزة.

وفي بداية العام 1982م استقال من عمله في الشئون الاجتماعية وانتقل للعمل في دائرة شئون الطلاب في الجامعة الإسلامية في مدينة غزة.

سنوات الاعتقال


واعتقلته سلطات الاحتلال في العام 1984م للاشتباه بنشاطه المعادي للاحتلال الصهيوني، غير أنه لم يعترف بشيء ولم يستطع الصهاينة إثبات أي تهمة ضده، فأصدروا ضده لائحة اتهام حسب قانون الطوارئ لسنة 1949م، وهكذا قضى في المعتقل عامين.

وبعد خروجه من المعتقل في العام 1986م شغل منصب مدير شئون الطلبة في الجامعة الإسلامية إلى أن قررت سلطات الاحتلال إغلاق الجامعة في محاولة لوقف الانتفاضة الفلسطينية التي اندلعت في العام 1987م، غير أن صلاح شحادة واصل العمل في الجامعة حتى اعتقل في أغسطس 1988م.

وظل محتجزًا في العزل الانفرادي والتحقيق منذ بداية اعتقاله وحتى مايو 1989م، وبعد أن فشل محققو جهاز الاستخبارات الصهيونية في انتزاع أي معلومات منه قرروا إنهاء التحقيق معه، غير أنه أعيد بعد فترة قصيرة إلى زنازين التحقيق بعد حملة اعتقالات واسعة في صفوف حركة المقاومة الإسلامية "حماس" جرت في مايو 1989م، واستمرت جولة التحقيق الجديدة حتى نوفمبر 1989م أي بعد ستة أشهر.

مؤسس كتائب القسام


وبعد انقضاء فترة الاعتقال عام 1984م؛ حيث قضى سنتين وراء القضبان، انكبَّ بعدها على تشكيل خلايا "المجاهدين الفلسطينيين" مع بداية الانتفاضة الأولى، والتي تكوَّنت منها فيما بعد نواة كتائب عز الدين القسام بعد تأسيس حركة حماس.

منذ ذلك الحين توالت العمليات المسلحة الجريئة ضد الجنود الصهاينة الذين كانوا يتدربون في مغتصبة آتزمونا وأمام مزرعة (كيبوتز) قريم شالوم.

و في عام 1988م اعتقل صلاح شحادة مرةً أخرى وحُكم عليه بـ10 سنوات ونصف سجنًا نافذةً؛ بتهمة مشاركته في التخطيط لعملية اختطاف وقتل جنديين صهيونيين، وبعد انقضاء مدة الحكم بقي معتقلاً أكثر من سنتين إضافيتين في ظل نظام الاعتقال الإداري بدون محاكمة، إلى أن أُطلق سراحه في شهر مايو 2000م.

وعاد شحادة بسرعةٍ إلى النشاط في إطار كتائب القسام، كما أصبح من القادة النافذين في حركة حماس، وكان قريبًا جدًّا من قائدها الشيخ ياسين، ونظرًا للدور الجهادي الذي اضطلع به وُضِعَ اسمه بسرعةٍ على رأس قائمة المطاردين المطلوبين من جيش الاحتلال منذ عام 2001م بعد أن أخذت انتفاضة الأقصى منحى المقاومة المسلحة.

وحاول القادة العسكريون في الكيان الصهيوني اغتيال قائد كتائب عز الدين القسام عدة مرات خلال الأشهر الأخيرة لكن محاولاتهم باءت بالفشل في كل مرة.

وفي مثل هذا اليوم استشهد الشيخ الجنرال صلاح شحادة 24 يوليو 2002م بقنبلة تزن طنًّا ألقتها طائرة صهيونية من طراز F-16 على بناية في حي مزدحم بمدينة غزة؛ مما أدَّى إلى استشهاد 18 فلسطينيًّا بينهم ثمانية أطفال.

شهادة الأعداء


ولقد استطاع الشيخ القائد أن يكسب الاحترام والتقدير من أعدائه، حيث قال عنه "يكوف بيري" الرئيس الأسبق لجهاز الشاباك الصهيونيّ: "هذا الرجل هو اليد اليمنى للشيخ أحمد ياسين، رجلٌ يثير انطباع من يلتقيه ويجبرك على احترامه حتى لو كنت تحتفظ تجاهه بكلِّ مشاعر الكراهية، إن شحادة رجل لا يعرف الانكسار".

وقال الإرهابي "شارون" يوم أن أشرف بنفسه على تنفيذ عملية اغتيال الشيخ الجنرال "صلاح شحادة": "ضربنا أكبر ناشطٍ في حماس، الشخص الذي أعاد تنظيم حركة حماس في الضفة الغربية من جديد، إضافةً إلى النشاطات التي نفّذها في قطاع غزة، هذه العملية هي واحدة من أكثر العمليات نجاحًا".

وأكد نائب مدير عام الشئون الإعلامية في وزارة الخارجية، غدعون ساعر: "بأن الغارة الصهيونية استهدفت ضرب إرهابي معروف، وهو مسئول عن مئات الهجمات التي نفذت ضد المدنيين الصهاينة خلال السنوات الأخيرة".
---------------
المصدر

الثلاثاء، 21 أبريل 2009

رحلة شهيد



من أشعار الشهيد عبد العزيز الرنتيسي.. ماذا دهاك؟!

الشعر عبارة عن حوار بين الشهيد ونفسه
-----------
ماذا دهاك يطيب عيشك في الحزن؟

تشري النعيم وتمتطي صهو الصعاب!

ماذا عليك إذا غدوت بلا وطن؟

ونعيت رغد العيش في ظل الشباب؟


يا هذه يهديك ربي فارجعي!

القدس تصرخ تستغيثك فاسمعي!

والجنب مني بات يجفو مضجعي!

فالموت خير من حياة الخنع!

ولذا فشدي همتي وتشجعي!


ها أنت ترسف في القيود بلا ثمن!

وغدًا تموت وتنتهي تحت التراب!

وبنوك واعجبًا ستتركهم لِمْن؟

والزوج تسلمها فتنهشها الذئاب!


القيدُ يُظهر دعوتي يومًا فاعي!

وإذا قُتلتُ ففي إلهي مصرعي!

والزوجُ والأبناءُ مُذ كانوا معي..

في حفظ ربي لا تُثيري مدمعي!

وعلى البلاء تصبري لا تجزعي!


إني أخاف عليك أن تُنفى غدًا

ويصير بيتك خاويًا يشكو الخراب!

وتهيم بحثًا عن خليلٍ مؤتمن

يبكي لحالِك أو يُشاطرك العذاب!


إن تصبري يا نفسُ حقًا تُرفعي

في جنةِ الرحمنِ خيرُ المرتعِ!

إنّ الحياةَ وإن تطُل يأتي النعي!

فإلى الزوالِ مآلُها لا تطمعي

إلا بنيل شهادةٍ فتُشفعي!


إني أراك نذرتَ نفسك للمحن!

وزهدتَ في دُنيا الثعالبِ والكلاب

وعشقتَ رملاً يحتويكَ بلا كفن

فرجوتُ ربي أن تكون على صواب!


أنا لن أبيت مُنكسًا للألمعِ

وعلى الزناد يظلُ دومًا إصبعي

ولئن كرهتِ البذلَ نفسي تُصفعي..

من كلِ خوارٍ ومختالٍ دعي!

وإذا بذلت الغالِ مجدًا تَصنعي!


إني أُعيذُكَ أن تذِلَ إلى وثن!

أو أن يعود السيفُ في غِمدِ الجراب

أو أن تقضي حياتك كما تُحب فلا ولن

أو ترضى حياة لا تُظللها الحراب!

إلى العلا .... بلا حساب
إلى العلا ..... بلا حســــــــــــاب

-------------------
رحمك الله يا شهيدنا
وإنا لله وإنا إليه راجعون!

السبت، 18 أبريل 2009

أحمد الرنتيسي يتحدث عن الذكرى الخامسة لاستشهاد والده "أسد فلسطين"




غزة - المركز الفلسطيني للإعلام

كان متدفقًا في حديثه.. تأخذك قدرته على التعبير واستحضار الآيات القرآنية، ولكن لا عجب؛ فهو ابن القائد "أسد فلسطين" الدكتور عبد الرنتيسي.. التقيناه في منزل العائلة المتواضع؛ لنعيش معه ظلال الذكرى الخامسة لاستشهاد والده.
كانت آثار الإصابة التي ألمّت به خلال محاولة الاغتيال الأولى لوالده لا تزال باديةً عليه، ويعاني من أثرها إعاقة في رجله ويده.
تحدَّث بوفاءٍ وقوةٍ وإيمانٍ وهو يتحدث عن والده ومسيرته.. كان يستشعر مسؤولياته كابنٍ لقائدٍ عظيمٍ في حركةٍ عظيمةٍ عبَّدت طريقها بدم قادتها، ودفعها صدق منهجها ومسارها نحو الأمام.. طوال الوقت كان يشخِّص الطريق نحو النصر الذي بشَّر به والده: صدق المنهج والقرب من الله عز وجل.
جلسة رائعة وودودة مع أحمد (26 عامًا) الموظف في "الجامعة الإسلامية" بغزة، ولديه ولدان: عبد العزيز وإبراهيم، وفيما يلي نص الحوار الذي أجرته "شبكة فلسطين للحوار" ونشر الجمعة (17-4).
* كيف تعيشون أجواء الذكرى الخامسة لاستشهاد والدك؟
** بسم الله الرحمن الرحيم.. إذا أردتُ أن أتحدث عن الوالد رحمه الله في الذكرى الخامسة لاستشهاده، فنحن لم نشعر أنه فارقنا؛ فرغم أنه فارقنا جسدًا فإن روحه حاضرةٌ معنا، وهي حاضرة في كل مواقف البيت والأسرة، نشعر به معنا، لم نفتقده روحًا بفضل الله، وبقيت ذكراه بمواقف عزته ورجولته وقوته في الحق، الذكرى الطيبة التي تركها، بقيت لنا فخرًا أمام الناس والجيران والأهل بفضل الله.

* برأيكم.. ما أبرز المحطات والتحولات في حياته التي انعكست عليه وعليكم كأسرة وعلى حركة "حماس"؟
** كان يقول دائمًا: "نقطة التحول في حياتي هي حفظ القرآن الكريم"، فكان يقول لنا باستمرار إن ذلك أدى إلى تغيير مجرى حياته؛ فقد حفظ رحمه الله القرآن في غضون ثلاثة أشهر أثناء فترة اعتقاله في إحدى الزنازين الانفرادية في سجون الاحتلال الصهيوني، ولم يكن مجرد حفظ، بل كان حفظًا وفهمًا وعملاً.
وكان يقول إنه بعد أن أتم حفظ القرآن يشعر بمعية الله في كل كلمة وموقف يقفه، ويشعر أنه مُوفَّقٌ في مواقفه؛ ولذلك لم يكن يخشى إلا الله.
ومن المواقف والمحطات البارزة التي كان يفتخر بها وقفته إبان الإبعاد إلى مرج الزهور، وكذلك وقفته ضد الاعتقال السياسي.
ففي مرج الزهور عندما جرى إبعاده مع مئات القادة أصر على البقاء في المخيم، واتفق مع باقي الإخوة والقادة على ذلك؛ حيث بقوا هناك رغم البرد والأجواء الصعبة، ويومها قال: "لأمرِّغنّ أنف رابين في التراب"، وكان له ذلك؛ حيث شكَّلت عملية الإبعاد رافعةً لحركة "حماس"، وأجبر الاحتلال فيما بعد على إعادة المُبعَدين بعد صمودهم وثباتهم.
أما ما يخص الاعتقال السياسي فقد كان ذلك عام 2002 عندما رفض أن يسلم نفسه إلى أجهزة أمن السلطة التي كانت تمارس الاعتقال السياسي، ومن ثم التف حوله أبناء الشعب الفلسطيني، هذا الموقف الذي يُشكَرون عليه، وكان قراره هذا عاملاً في توقف الاعتقال السياسي حتى عملية الحسم العسكري؛ حيث عادت تلك السلطة إلى ممارساتها في الضفة الغربية.

* ما بين الاعتقال والإبعاد والمطاردة توزعت حياة الشهيد القائد.. كيف انعكس ذلك عليكم كأسرة؟
** بصراحةٍ.. عندما تكون حياة الإنسان كلها لله فهو يتوقَّع كل ما سيقابله من ابتلاءاتٍ وأشواكٍ وصعوباتٍ، خاصة إذا كان صُلبًا، ويقول كلمة الحق لا يخشى في الله لومة لائم؛ فكان رحمه الله دائمًا يعلمنا ويفهمنا هذه الأمور، وهو بفضل الله رغم ما حدث معه من اعتقالاتٍ كان يستغل فترة الزيارة للتخفيف عنا، وكان يقابلنا بوجهٍ بشوشٍ ويشاركنا همومنا من داخل المعتقل.
وعندما خرج من المعتقل، رغم انشغالاته الكثيرة بقضية فلسطين والأمور الحركية والدعوية، كان إذا دخل البيت تمثَّل بالرسول (صلى الله عليه وسلم) عندما قال: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي".
وكان مهما حدثت معه مواقف ومضايقات تزعجه يحاول إبعاد القلق عنا، ويدخل ببشاشته التي اعتدنا عليها، ويداعب الأحفاد.
وأشير هنا إلى أننا ستة أولاد للشهيد: أنا وأخي محمد، وأربع شقيقات، ووالدي رحمه الله لم يحضر زواج ثلاثة من شقيقاتي؛ لكونه كان في المعتقلات الصهيونية، وشقيقتي الرابعة حضر حفل زواجها، وكذلك حفل زواج محمد، أما أنا فخطب لي يوم استشهاده رحمه الله.

* عُرف الشهيد بقوة الشكيمة والقرارات الصارمة.. كيف كان داخل الأسرة؟ ومن أين جاءت هذه القوة و"الكاريزما" التي كان يتمتع بها؟
** إن أردت أن أتحدث عن صلابة والدي في وجه الأعداء ولينه بين أهله وأصحابه، فأقول إن ذلك كان نابعًا بالأساس من فهمه وتطبيقه لما جاء في قوله الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (المائدة: 54)
فقد منحه الله الفضل؛ فكما ذكرت كان رحمه الله قد حفظ القرآن وطبَّقه، فكان أن أكرمه الله بهذا الفضل، وعلم بتفسير هذه الآية أن القوة على الكافرين لا تكون إلا بخفض الجناح للمؤمنين؛ لذلك عندما تواضع بين أهله وإخوانه وجيرانه أعزَّه الله على المنافقين والكافرين.
ومن كثرة لينه لا أذكر أنه ضربني يومًا، سواءٌ أنا أو إخواني.. هذا القائد وهذه الشخصية المؤثرة القوية، كيف يتعامل بكل هذا التودد عندما يشاهدونه عن قرب؟!، كانوا يتصورونه مزمجرًا لا يضحك ولا يمزح؛ فرحمه الله ربانا من خلال مفاهيم الإسلام، وكأنه كان يعلم أسس التربية النفسية الحديثة.

* عملتَ كمرافق للشهيد.. كيف وجدته كأبٍٍ وقائدٍٍ؟ وما أبرز المفارقات التي صادفتكم خلال العمل؟
** في الواقع.. لم أكن مرافقًا للوالد بشكلٍ رسميٍّ، ولكنني كنت أفضِّل الوجود معه وبجانبه دائمًا، وكنت أحرص على ذلك؛ إذ لم أتخيل يومًا أن أسير في جنازته، وكنت أتمنى دائمًا أن أسبقه إلى الشهادة، أو استشهد إلى جانبه ومعه، ولكن قدر الله نافذ، وحتى يوم محاولة الاغتيال الأولى -وكأنه كان يتوقَّع ذلك- طلب مني عدم الخروج معه، ولكنني أصررت على ذلك.

* كعائلةٍ لواحدٍ من أبرز قادة فلسطين.. كيف تستشعرون المسؤولية الملقاة عليكم؟
** هذا الأمر ليس هينًا؛ فسيرة الوالد بقيت نفتخر بها، والأمانة تحتم علينا الحفاظ على هذه السيرة.
من جانبنا نحاول أن نكون عند حسن الظن، وكما ربانا نحافظ على تراثه، ونسير على نهجه، ونحافظ على العادات التي كان يقوم بها من صلةٍ للأرحام وزيارةٍ للعجائز في العائلة حتى في أحلك الظروف، واليوم عندما أقوم بهذا الدور أشعر بالسعادة وأنا أسمع دعواتهم لوالدي رحمه الله.
أما الوالدة فقد صبرت واحتسبت وأكملت المشوار دون أي ترددٍٍ أو تراجعٍٍ، ومن فضل الله أن منَّ علي وجعلني ابن قائدٍٍ وداعيةٍٍ.

* تعرَّضتَ لإصابةٍ خلال محاولة اغتيال الشهيد الأولى.. كيف وقعت هذه الحادثة في ظل الاحتياطيات الأمنية؟
** الحادثة وقعت في 10-6-2003م، وقبلها بيوم كان والدي عائدًا من منزل الشيخ الإمام أحمد ياسين رحمه الله، وفي أحد المفترقات شاهد أحد المرافقين طائرات الأباتشي تتأهَّب للقصف فنبَّه من كان معه ونجحوا في النزول من السيارة وتمكَّنوا من الاختفاء، ومن ثم غادر والدي المكان مشيًا على الأقدام.
وإثر هذه الحادثة استشعرنا أن والدي قد يُستهدف، فلزم البيت فترة، إلا أنه وصله نبأ إصابة أحد زملائه الأطباء بمرضٍ مزمنٍ فأصر على الذهاب إلى المستشفى لزيارته.
وفي حوالي الساعة الحادية عشرة ذهبت لأحضر السيارة التي أدخلها دائمًا "الكراج" كاحتياطٍ أمنيٍّ، والتي كان زجاج مغطًّى بالـ"بيرسون" العازل للرؤية، ويصعد أبي إلى السيارة هو ومرافقه وهي في "الكراج"، ويجلسان بالمقعد الخلفي فلا يعرف أحد أنه موجود في السيارة، ثم أخرج أنا بطريقة عادية وأفتح باب "الكراج" وأخرج السيارة وننطلق في طريقنا.. كانت هذه إحدى وسائل الاحتياطيات الأمنية التي كنا نتبعها.
وبالفعل انطلقنا باتجاه المستشفى، وكان الخطأ يومها أننا حدَّدنا المسار (المستشفى) على الهاتف الجوال، ويبدو أنه تم رصد المكالمة، وبعدها بقليلٍ تم قصف السيارة؛ فبعد أن قطعنا مفترقًا أصاب صاروخٌ مقدمة السيارة التي كنت أٌقودها بسرعةٍ كبيرةٍ.. لم تتوقف السيارة وظلت تسير بشكلٍ متعرجٍ، وملأ الدخان المكان فلم أرَ شيئًا.
بعد الصاروخ الأول خرج المرافقون من السيارة وبقيت أنا وأبي، ثم أطلقت الطائرة الصاروخ الثاني لكنه أخطأ هدفه وبعده ابتعدنا قليلاً عن المكان وحَجَبنا برجُ الشفاء عن مجال إطلاق الصواريخ؛ ما أعطانا فرصة للخروج.. خرج أبي، وكان الباب المجاور لي مغلقًا فخرجت من الشباك، كنت قد أصبت ولكني ما زلت أعي ما يدور حولي.. هبّ أربعة شبان لإنقاذي، وبعدها أطلق صاروخ ثالث.. غبت عن الوعي وبقيت خمسة أيام في المستشفى في غيبوبة لإصابةٍ في القلب ونزفت كثيرًا، ولكن عناية الله وقدره أبقتني على قيد الحياة.
استيقظت من غيبوبتي وأبلغوني أن والدي أصيب فلم أصدق.. اعتقدتهم جميعًا استشهدوا؛ فالموقف كان عظيمًا، ولم أقتنع إلا بعدما تحدثت مع والدي عبر الهاتف؛ حيث غادر المستشفى بعد ثلاثة أيام كإجراءٍ أمنيٍّ رغم أنه أصيب بجروحٍ خطيرةٍ في ساقه حينها، وعلمت أن المرافق استشهد.

* وماذا عن تفاصيل حادثة الاغتيال التي كنت شاهدًا على أجزاءٍ منها؟
** الحادث وقع بعد عشرة شهور من الحادث الأول، وبعد شهرٍ تقريبًا من اغتيال الشيخ أحمد ياسين؛ حيث تولى والدي قيادة الحركة، وازدادت بعدها الاحتياطيات الأمنية؛ لأننا كنا نتوقع الاستهداف.
قبل الحادث بشهرٍ لم نر والدي مطلقًا، وقبلها قليلاً لم كنا نراه، إلا أنه يومها جاء إلى البيت قبيل الفجر بساعةٍ متخفيًا، أراد أن يجلس معنا لمدة ساعة واحدة قبل أن يخرج قبل أن يبدأ النهار.
كانت إحدى شقيقاتي موجودة في البيت، وأصررنا على أن يبقى ويقضي معنا النهار؛ ولرغبتنا بقي في البيت، وكان يومًا مميزًا لشوقنا إليه.
راقبت تعبيرات وجهه في ذلك اليوم.. ما زالت منطبعة في ذهني حتى الآن، فقد لاحظ الجميع أن وجهه كان يشع نورًا لم نعهده من قبل بهذا الشكل.
جلسنا وتسامرنا.. يومها فُتح موضوع زواجي، وجرى التشاور على اختيار العروس؛ حيث اختار ابنة الدكتور إبراهيم اليازوري، وبالفعل أرسل عصرًا زوج شقيقتي الشهيد علاء الشريف ليخطبها لي.
صلينا المغرب يومها، وقرَّر أن يغادر، وكان في العادة يغادر بعد العشاء انتظارًا لحلول الظلام، ولكنه خرج بعد المغرب؛ حيث لبس أجمل لباسه، ومازحته إحدى شقيقاتي بأنه عريس اليوم فابتسم، وبعدها بقليلٍ سمعناه يترنم "أن تدخلني ربي الجنة".
نزلنا إلى "الكراج" ركب أبي السيارة وهي فيه، ثم أخرجت أنا السيارة وانطلقت إلى شارع اللبابيدي؛ حيث كانت تنتظره السيارة في شارعٍ مظلمٍ يخلو من المارة بعد صلاة المغرب.
تم هناك تبادل السيارتين؛ ثم انطلقت السيارتان كلٌّ في اتجاهٍ مختلفٍ.
بعد حوالي دقيقة ونصف سمعت صوت انفجارٍ مكتومٍ ولكني لم أسمع صوت طائرات، وللوهلة الأولى عرفت أن المقصود أبي.
رجعت إلى البيت.. لم أكن أتخيل مشاهدة والدي وهو جثة متفحمة، ثم جاء الخبر أنه أصيب.. قامت والدتي وتوضأت وصلت ودعت لنا بالثبات، وجاء الخبر بأنه نال الشهادة ومعه مرافقه أكرم نصار والسائق أحمد الغرة.
بعد ذلك هنأنا بعضنا بنيله الشهادة؛ فقد كانت أمنيته الأثيرة، ثم بدأنا باستقبال المهنئين المتوافدين إلى المنزل.
* ترددت اتهامات لأقطاب الأجهزة الأمنية البائدة وعملاء عن دورٍ في تتبع القائد، سواء في محاولة الاغتيال الأولى أو الثانية، وآخرون تحدثوا عن حدوث اختراقٍ في دائرة المرافقين.. هل تكشفت لديكم الآن حقائق عن الجهة المتورِّطة؟
** الحقيقة.. المرافقون في الحالتين استُشهدوا؛ لذلك لم يكن الزج بهم إلا من بعض الفئات المغرضة.
الحادثة الأولى للاتصال دورٌ كبيرٌ في تقديرنا عندما تم تحديد وجهتنا إلى المستشفى وبعدها تم رصدنا على ما يبدو.
وفي الحادث الثاني الراجح أنه تم رصد المرافق أكرم نصار الذي أصرَّ يومها على المجيء ومرافقة السائق الذي ينتظر والدي؛ لاشتياقه الشديد إليه، ومن الممكن أنه تم رصد عملية تبديل السيارتين رغم الاحتياطيات الأمنية التي جرت، والواقع فإن طائرات الاستطلاع لم تكن تغادر السماء في تلك المرحلة، وفي النهاية هو قدر الله النافذ؛ فالحمد لله على كل حال.

* بعد استشهاد القائد حدثت تحولاتٌ كبيرةٌ.. هل كانت هذه التحولات حاضرةً في ذهن الشهيد، لا سيما أنه كان يردِّد باستمرار: "سننتصر يا بوش"، مع الإشارة إلى ما يردده البعض أنه لو أن الشهيد كان حيًّا لما حدث كذا أو كذا؟
** الحركة بعد استشهاد الوالد والشيخ أحمد ياسين وغيرهما من القادة ازدادت قوةً وصلابةً.. لو لم يقدِّم القادة أرواحهم لما وصلت الحركة إلى ما وصلت إليه من قوة، ولو دخلت انتخابات لما فازت بها؛ فدماء الشهداء القادة كانت وقودًا وحياة أخرى لهذه الحركة والدعوة.
ومع تقديرنا لكل هذه التضحيات، أقول: الحركة لا تقوم على شخصٍ واحدٍ حتى لو كان والدي، والأمر في الحركة كما هو معروف بالشورى، ووالدي يسمع ويطيع حتى لو كان مخالفًا لرأيه، بل ويتبناه ويردده؛ فهذه الحركة خرجت وانطلقت من أجل الله وفي سبيله.

* وماذا عن عبارته التي أصبحت لحن المحتفلين بالانتصارات "سننتصر"؟
** الحقيقة أنني أستشعر أن والدي قالها وهو متأكد أن الانتصار سيتحقق؛ ليس لقوة الحركة، ولا لصلابتها، وإنما لأنه كان يعلم سلامة المنهج وأنها تسير في مرضاة الله، وأن من يسير في معية الله لا يمكن أن يهزم؛ لذلك أنا مطمئنٌ أن كل هذه الانتصارات دلالةٌ على صحة المسار، وأنا على ثقةٍ بأن النصر الأكبر قادمٌ بإذن الله لا محالة بتحرير الوطن والقدس وإقامة شرع الله في أرضه.

* هل مرت عليك لحظات تمنَّيت فيها أن لو كان الشهيد كان حيًّا؟
** تمنيت وقت انسحاب الاحتلال واندحاره من غزة أن لو كان حيًّا بيننا يشهد الانتصار الذي بشَّر به وحقَّقته المقاومة ضد الاحتلال.
ذات الشعور راودني أيضًا يوم الحسم العسكري؛ تمنيته حاضرًا وهو يشهد انهيار قوة الظلم، وهو الذي طالما تعذب وذاق الويلات على أيديهم، وأظنه أن لو كان موجودًا حيًّا لفرح بما تحقق بإذن الله تعالى.

حوار مع الدكتور عبد العزيز الرنتيسي






"الصَّقر" حيٌّ لا تقل "الصقر" ماتْ ..... أوَهل يجف النيل أو نهر الفرات؟*
عُذراً لصاحب الأبيات الشجيَّة, ورحمات الله على روحه التقّية؛ فلقد كُتبت مثل هذه الكلمات رثاءً للشهيد المهندس يحيى عيَّاش, وخطَّها الرنتيسي في قصيدةٍ تتفجّر منها معاني الحماس والوفاء؛ ليؤكد على أن طريقاً بُدأ بالتضحية لن ينتهي إلا بالنصر, وأن بذوراً غُرست في أعماق الأرض لن تخرج إلا أزهاراً وأشجاراً وارفة الظلال. وفي ذكرى استشهاد القائد, لم أجد أفضل من كلماته حتى أُعبِّر عن ذات الحالة التي أراد الدكتور إيصالها يوم ارتقى مهندس الكتائب؛ فلن تجفَّ فينا المبادئ التي غرسها القادة العظام, ولن تنحني منَّا الهامات الباسقات مهما اشتدت ضراوة الأيام. وحتى نأخذ من معاني الكرام ونقيس على أحداث أيامنا, فلقد قمت بجمع أسئلتي و توجهت إلى مكتبة الدكتور عبد العزيز الرنتيسي- رحمه الله- وكان هذا الحوار بين سؤالٍ وإجابة!

- يحاول البعض اللعب على وتر تغيُّر حماس بعد استشهاد الياسين والرنتيسي, وأؤلئك الذين يلمزون في الحركة لا يرون جانباً إيجابياً فيما وصلت إليه حماس, ولا يُقدِّرون اختلاف الظروف وتغير أوراق اللعبة وأدواتها في هذه الفترة من عمر الحركة؛ فكثيراً ما نسمع بأن حماس غيَّرت مبادئها بعد استشهاد ثلة من الرعيل الأول. ما رأي الدكتور عبد العزيز في هذا الأمر؟
د. عبد العزيز الرنتيسي:" كم من قائل بأن الحركة قد غيرت مبادئها، وقد أصبحت الآن تقبل بما رفضته بالأمس، ثم يكتشف بعد حين ثبات الحركة على مبادئها وأنه كان قد جانبه الصواب ولكن لا يراجع نفسه ليستدرك الأمر حتى لا يقع في سوء التقدير مرة أخرى، ولا أعتقد سببا لتكرار القراءة الخاطئة من مفكر ما إلا أنه يجامل هواه على حساب الحقيقة"(1)

- نفهم من هذا الكلام أنَّ هذه الظاهرة لم تولد بعد استشهاد القادة, ويبدو أن هناك من كان يلمز حماس بتغير منهجها وانحرافها عنه حتى في حياة الياسين والرنتيسي؛ لكن كيف نرد على من يعتقد بأن حركة حماس مرتبطة بشخص, فإن مات أو قُتل, انهارت الحركة وعادت إلى درجة الصفر!؟
د. عبد العزيز الرنتيسي: " يُسقط هؤلاء المفكرون هذه الصور السيئة على حركة حماس.. ولا يفهمون روابط الأخوة التي تربط قيادة الحركة بعضها ببعض، وتربط القيادة بالقاعدة، وتربط القاعدة بالقاعدة، ولا يستطيعون أن يتفهموا عملية اتخاذ القرار في حركة حماس والتي تستند إلى رأي الأغلبية من خلال الشورى الملزمة، وينسون في غفلة من أمرهم أن تأليه الفرد ليس من أعراف هذه الحركة الإسلامية، بل يتناقض مع مبادئها التي هي مبادئ الإسلام". (1)

- ما رد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي على من يقول بأن جناح الصقور قد غاب عن الحركة وخلت الساحة لجناح الحمائم!؟
د.عبد العزيز الرنتيسي: " أنه من الجهل بالحركة أن نصنف قادتها إلى صقور وحمائم، ولكننا في واقع الأمر حمائم مع أبناء شعبنا على اختلاف بعدهم وقربهم منا.. وصقور مع أعدائنا لا نبالي بما يحيق بنا طالما أننا ندافع عن الشعب والوطن والمقدسات". (1)

-نتيجة لما ذكرتم فقد حوربت حركة حماس وقُيِّدت مع الشعب في كثير من المواطن, وتوِّجت الهجمة عليها بالحرب الأخيرة التي استهدفت الحركة واغتيل على إثرها العالم نزار ريان والشيخ سعيد صيام؛ ماذا يقول الدكتور بعد هذه الهجمة التي استهدفت الحركة وقادتها وأبناءها؟
د.عبد العزيز الرنتيسي: "أقول لكم و أطمئنكم: لو رحل الرنتيسي و رحل الزهَّار و رحل هنية و رحل نزار و رحل صيام و رحل الجميع، والله لن نزداد إلا لُحمة و ولن نزداد إلا حبًّا، فنحن الذين تعانقت أيادينا في هذه الحياة الدنيا على الزناد، وغدًا ستتعانق أرواحنا- بإذن الله- في رحاب الله". (2)" اليوم تشتد الهجمة على حماس، ولا يعني اشتداد الهجمة أن العدو في وضع جيد، أو انه قريب من تحقيق أهدافه، بل على النقيض تماما هذه الهجمة تعكس حالة الخوف والإحباط واليأس الذي يعيشها الاحتلال، ولو نظرنا إلى الإجراءات الأمنية المشددة التي أحالت حياتهم إلى جحيم أدركنا الحقيقة التي تقول أنهم على حافة الانهيار المعنوي والنفسي الخطير، والمعركة في فلسطين على غير ما يهوى اليهود الصهاينة بدت واضحة بين الإسلام بما يملك من طاقات روحية ومبدئية هائلة، وبين يهود صهاينة يملكون آلة دمار كبيرة ولكنهم جبناء، فهم يعلمون أن حماس لن تتراجع أمام ضرباتهم، ويدركون أن القضاء على قادة حماس السياسيين المعلنين سيؤدي إلى شيء واحد فقط وهو ظهور قيادة سرية وهذا حدث يوم اعتقلوا مؤسسي حماس بما فيهم الشيخ أحمد ياسين عام 1989م، وهذا لم يضعف الحركة في الماضي وحتما لن يضعفها في المستقبل، ونخلص من كل ذلك أن حماس أيا كان حجم الهجمة عليها فالنتيجة الأكيدة أن الحركة ستزداد قوة وانتشارا، كما أنها ستكرس حق الشعب الفلسطيني في كامل وطنه وهذا يعني أن كل التنازلات التي جرت عبر المفاوضات ستصبح أثرا بعد عين، أي أن سقف التطلعات السياسية للشعب الفلسطيني سيرتفع إلى مستواه الشرعي". (3)

- بما أننا وصلنا إلى موضوع المفاوضات, فقد نقلت الأخبار بأن السلطة الفلسطينية " تتخوف" من امتناع حكومة نتن ياهو عن استئناف المفاوضات بين الجانبين, على ضوء رفض نتن ياهو حل الدولتين, واعلان وزير خارجيته بأن المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود. ما قول الدكتور عبد العزيز في هذا الأمر؟
د.عبد العزيز الرنتيسي: "كنت دائما ولا زلت على قناعة تامة أن الصهاينة اليهود لن يسمحوا في يوم من الأيام بقيام دولة فلسطينية مستقلة على طاولة المفاوضات ولو على جزء يسير من أرضنا المغتصبة فلسطين، فالمشروع الصهيوني الرامي إلى قيام ما يسمى ( بإسرائيل الكبرى ) لا زال محط أنظار الصهاينة الأشرار، وهم يؤمنون أن قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة ربما يقطع الطريق على هذا المشروع، كما أن الصهاينة يعتقدون أن قيام دولة فلسطينية يشكل خطرا استراتيجيا على مستقبل الكيان الصهيوني، إدراكا منهم أن الأمة العربية والإسلامية ستستمر في رفضها للوجود الصهيوني على أرض إسلامية لها ارتباط وثيق بعقيدة المسلمين، وأعتقد أن المفاوض الفلسطيني بات اليوم يشاركني قناعتي هذه، ولكنه لا زال يسعى إلى المفاوضات وكأنها أصبحت هدفا لذاتها، فما الذي يريد أن يحققه المفاوض الفلسطيني من هذه المفاوضات؟" . (4)

- إذاً ما هي الرسالة التي يوجهها الدكتور للمفاوض الفلسطيني!؟
د.عبد العزيز الرنتيسي: " قل لي بربك أيها المفاوض الفلسطيني.. لماذا تسعى إلى المفاوضات؟!!! (4)لقد فاوضت م.ت.ف العدو الصهيوني على مدى حوالي التسع سنوات منذ مؤتمر مدريد، وذلك من خلال السلطة المنبثقة عنها، وتعاونت معه أمنيا، واعتقلت المجاهدين عام 1996م، وشكلت من قوات الأمن الفلسطيني سياجا أمنيا يحمي الاحتلال ومستوطناته، وألغت ميثاقها، وآمنت "بعِجْل" السلام الصهيوني، واعترفت بما يسمى دولة "إسرائيل" أي تنازلت عن 78% من فلسطين، ولكن العدوان على شعبنا لم يتوقف، فبناء المستوطنات، وشق الطرق الالتفافية، وتهويد المقدسات لم يتوقف للحظة واحدة بينما كانت طاولة المفاوضات عامرة بالمتحدثين عن السلام الشامل والدائم والعادل، ولنا عندئذ أن نتساءل أليس هذا هو الاستدراج بعينه؟ ألم توفر طاولة المفاوضات الغطاء المطلوب لتلك الممارسات العدوانية التي تتناقض مع السلام، وتجعل قيام دولة فلسطينية أمرا مستحيلا وقد نجح العدو الصهيوني بتقويض مقوماتها عبر عزل الشعب الفلسطيني في معازل متناثرة؟فإذا كنا نجمع على أن العدو يفر من السلام ولا يريده ولا يؤمن به، وإذا كان إحراجه أمرا مستحيلا ومعه أمريكا بخيلها ورجلها، وإذا أيقنا أن عدوانه المتواصل علينا خيار استراتيجي لأنه وسيلته الأساسية في تنفيذ المخطط الصهيوني، فلماذا لا يقر جميعنا بأن المقاومة هي الخيار؟!!!! " (5)

- حركة حماس في الفترة التي سبقت حرب الفرقان, قامت بتعليق العمل العسكري و وقف إطلاق الصواريخ, مما دفع لاتهامها من قبل البعض بأنها انجرَّت إلى مربع التسوية وهجرت المقاومة, خاصة وأنَّ خروقات الاحتلال في فترة الهدنة لم تتوقف؛ فلماذا أباحت حماس لنفسها وقف العمل العسكري في ذلك الوقت!؟
د.عبد العزيز الرنتيسي: " حقيقة الأمر أننا نؤمن أن تعليق العمل العسكري لن يؤدي إلى أي إنجاز سياسي لصالح الشعب الفلسطيني على صعيد استرداد حقوقه السليبة، كما أننا نؤمن أنه لن يؤدي إلى وقف مختلف أشكال العدوان على شعبنا الفلسطيني، ولذلك لم يكن هدفنا من التعليق إلا صيانة الوحدة الوطنية الفلسطينية، وإزالة العقبات من أمام مشروع المقاومة المسلحة." (5)

- في الوقت الأخير سادت الساحة الفلسطينية أخبار "الحوار الوطني الفلسطيني", وانشغلت الأطراف الفلسطينية بآمال تحقيق الوحدة الوطنية. لكنَّ إرجاء الحوار إلى وقتٍ آخر, دفع البعض لتحميل حركة حماس مسئولية فشل الحوار. كيف تُبرر حركة حماس موقفها من الحوار الفلسطيني؟
د.عبد العزيز الرنتيسي: " إذا تحدثنا عن الحوار فلم يعد لهذا المصطلح العظيم من مضمون، لأننا نفهم الحوار على أنه سلوك وطني وإسلامي يضع كافة القضايا التي تهم المتحاورين تحت المجهر بهدف التوصل لما هو أفضل لقضيتنا ولشعبنا، وأن يكون هناك استعداد مسبق لدى الأطراف المتحاورة أن تفتح أسماعها وأبصارها وأفئدتها للرأي الآخر، وأن يكون لديها استعداد للتخلي عن موقفها لصالح المصلحة العليا إذا تجلت في الرأي الآخر، بينما نرى مفهوما آخر للحوار يفرغه من مضمونه، فقد أصبح في عرف البعض أنهم وحدهم يحتكرون الصواب دون غيرهم، وأن على الآخرين أن يتخلوا عن قناعاتهم وإلا فالحوار يعتبر فاشلا قبل انعقاده، وعندها يجرد الحوار من معناه الجميل ليصبح ضغوطا وإلحاحا وتخجيلا، من طرف على طرف آخر كي يتخلى عن ثوابته التي يؤمن أن المصلحة الوطنية العليا تكمن في التشبث بها، فالحوار ليس وسيلة ضغط من أجل دفع هذا الطرف أو ذاك لتغيير محضنه الفكري أو الثقافي أو السياسي، وليس وسيلة من وسائل الترغيب والترهيب، ونجاح الحوار يكمن في قبول الطرف الآخر كما هو، ثم يجري البحث في التحول المطلوب كنتيجة للحوار، وليس كشرط مسبق لنجاح الحوار، فهناك من يقيد نجاح الحوار بتحقيق الهدف الذي حدده كنتيجة مسبقة للحوار، فإن تحقق كما يرجو يصبح في عرفه الحوار ناجحا، وأما إذا لم يتمكن من تحقيق ما يشتهي فلا يتردد في الإعلان عن فشل الحوار، ثم لا يلبث أن يحمل صاحب الرأي الآخر الذي لم يقترف ذنبا إلا أنه تشبث برأيه الذي اقتنع بصوابيته، وأبى أن يكون إمعة، مسئولية ذلك الفشل المزعوم." (6)

- تساءل الدكتور عبد العزيز في إحدى مقالاته " هل السلطة في ظل الاحتلال إنجاز وطني أم إنجاز للاحتلال؟"(7). فما هو المطلوب من السلطة حتى تصبح انجازاً وطنياً يجمع الشعب في بوتقة المقاومة؟
د.عبد العزيز الرنتيسي: "أن تعلن السلطة عن وفاة أوسلو، وعن تحللها من التزاماتها كما جاءت في الاتفاقيات التي وقعت عليها، وأن تنحاز إلى خندق المقاومة كخيار استراتيجي، وما من شك أن لهذا الخيار تكاليفه، فهذا يعني بوضوح نهاية السلطة كمشروع دولة، ولن تكون التكاليف إذن باهظة لأن مشروع الدولة غير قابل للتنفيذ، ولكن من مزايا هذا الخيار أنه سيحافظ على السلطة كإطار وطني ثوري، وبالتالي سيصون الوجود الفلسطيني، ويحفظ القضية الفلسطينية من التصفية، ويجمع الصف الفلسطيني في بوتقة واحدة، ويعزز قدرة المقاومة على تحقيق أهدافها، ففي التحلل من التزامات أوسلو، يصبح التسلح مشروعا وليس جريمة مخجلة... وستصبح المقاومة عندئذ عملا مشروعا وليست إرهابا، فمقاومة الاحتلال لم تفقد مشروعيتها إلا في أوسلو، وسيصبح العدو أمام أمرين اثنين: إما أن يذعن لشروط شعبنا الفلسطيني المجاهد، أو أن يواجه حرب استنزاف طويلة الأمد، باهظة التكاليف لا يريدها ولا يتمناها، ولا يمكنه تحمل تبعاتها." (8)

- إذاً هل يُشجِّع الدكتور عبد العزيز انضمام حماس وباقي القوى الفلسطينية إلى السلطة إن تمرَّدت على أوسلو؟
د.عبد العزيز الرنتيسي: "اندثار أوسلو يعتبر مصلحة عليا للشعب الفلسطيني ، مما يفتح الباب على مصراعيه أمام مشاركة كل القوى في صناعة القرار الفلسطيني المستقل ، و يهيئ الأجواء لميلاد سلطة مستقلة وقوية".(9)

- قام النظام المصري باعتقال مجموعة من الأفراد قيل أنهم يُهرِّبون السلاح للمقاومة الفلسطينية المحاصرة في غزة. وفي ذات الفترة قام النظام الأردني بالحكم على ثلاثة أردنيين أُدينوا برصد مواقع عسكرية اردنية لصالح حماس؛ ما هي رسالة الدكتور عبد العزيز للحكام العرب الذين يزيدون من الضغط والحصار على المقاومة الفلسطينية؟
د.عبد العزيز الرنتيسي: " يا قادة العرب شعوبكم تتحرق شوقا لنجدتنا ونصرتنا، تتلظى على جمر العار لحرمانها من نصرة المسرى، تتوق إلى الجهاد في سبيل الله، دفاعا عن كرامة أمتنا التي مرغها الصهاينة في التراب، فلماذا تسلطوا عليهم الكلاب الأمريكية؟ ولماذا تجلدوا ظهورهم بالهراوات البريطانية؟ فإن كنتم قد تخاذلتم عن نصرتنا، ألا يسعكم أن تغضوا الطرف عمن يريد نصرتنا ؟؟ليت الذي لم يكن بالحق مقتنعا يخلي الطريق ولا يؤذي من اقتنعا. يا قادة العرب لماذا هذا الولاء الأعمى لمن نهانا رب العزة عن اتخاذهم أولياء (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء)، فربما تقولون كما قال الذين من قبلكم (نخشى أن تصيبنا دائرة) فاقرءوا إذن قول الله عز وجل ( فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين )، وربما ابتغاء العزة عندهم، فأذكركم باستنكار الله ذلك قائلا سبحانه ( أتبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا )، ولذا أما آن لكم أن تتدبروا قول الله تعالى (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا)، فإلى متى تبتعدون عن هذه الحقائق القرآنية الدامغة ؟؟ ألا ترون أن ابتعادكم عنها سبب هزائمنا ؟؟يا قادة العرب ألا ترون أنه لولا جهاد شعبنا في فلسطين لاقتحم العدو عليكم عواصمكم، فهو الذي لم يتخل بعد ولن يتخلى عن مشروعه وحلمه في ما يسمى بإسرائيل العظمى، فلماذا لا تدعمون صمودنا كي نحمي عواصمكم ؟؟" (10)

- في ظل الحكومة الصهيونية اليمينية, قال وزير الخارجية أفيغادور ليبرمان, بأنه يرفض مؤتمر أنابوليس, الذي هرولت إليه بعض الأطراف الفلسطينية و رأت فيه طريق النجاة و الحل الأمثل. كيف يمكننا تفسير موقف القادة الصهاينة من الاتفاقيات المبرمة مع الفلسطينين؟
د.عبد العزيز الرنتيسي: " لقد أصبحت عملية الإخراج الإعلامي للتراجعات السياسية تأخذ شكلاً نمطياً ثابتاً ، يبدأ دائماً بعرضٍ أمريكي يتمثّل في ورقة أو خطة أو خريطة ، تحمل في طياتها مطالبة الجانب الفلسطيني بتخفيض سقف التطلعات السياسية ، فيأتي الرد الفلسطيني على شكل القبول المشروط الذين يعني الموافقة ، بينما يأتي الردّ الصهيوني على شكل قبولٍ مع تعديلات كبيرة تعني الرفض ، فتأخذ عوامل التعرية الصهيونية في نحت الخطة لتصبح شيئاً آخر يتطلّب تخفيضاً جديداً للسقف الفلسطيني ، فيتعزّز الجانب الفلسطيني في البداية لكن سرعان ما يعلن عن الموافقة بدون شروط ، ليبدأ التشدّد الصهيوني من جديد ، و هكذا يتم خفض السقف السياسي مرة تلو الأخرى ، و ما هي إلا أسابيع حتى يصبح ما تعتبره فصائل المعارضة كارثة سياسية مطلباً فلسطينياً وطنياً !!! ."(11)

- إذاً, كيف يرى الدكتور عبد العزيز السياسة؟
د.عبد العزيز الرنتيسي: " لقد كانت السياسة هي فن الممكن ، فهل أصبحت اليوم فن التراجع ؟‍‍‍‍؟؟ أما أنا فأرى أن السياسة هي فن التمسك بالثوابت ". (11)

-تأتي ذكرى استشهاد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي في يوم الأسير الفلسطيني 17-4 , فماذا يقول الدكتور عبد العزيز في قضية الأسرى, وكيف يرى السبيل الأمثل للتعامل مع هذا الملف؟
د.عبد العزيز الرنتيسي: " الحركة الإسلامية في فلسطين أمام خيارين اثنين: إما أن تقوم بالعمل على اعتقال جنود صهاينة لإنجاز عملية تبادل، أو تترك المعتقلين يرسفون في القيد إلى الأبد، والخيار الثاني لا يمكن للحركة الإسلامية إلا أن تشطبه من أجندتها، مما يعني أن الخيار الأول هو الخيار الوحيد أمام الحركة الإسلامية." (12)

***
أبشرْ فإن جهادَنا متواصلٌ .... إنْ غابَ مقدامٌ ستخلفه مئاتْ*
هذه البشرى التي أراد الدكتور عبد العزيز إيصالها ليحيى عيَّاش, وأضاف عليها في ذات القصيدة قائلاً:
اليوم يا يحيى ستنهض أمةٌ .......
وتثورُ تنفض عن كواهلها السُّباتْ
ونُعيد ماضينا ويهتف جُندنا........
النصر للإسلامِ بالقسَّام آتْ
ونحن اليوم نزف للدكتور عبد العزيز ذات البشرى؛ بأن جهادنا متواصل وأن قسامنا قد غدا جيشاً لا يُقهر, تفرُّ منه أقوى الجيوش تسلُّحاً في المنطقة.
تشتاق أعيننا لرؤية الرنتيسي وباقي قادتنا الشهداء,
في كل لحظة وساعة,
ولكنَّ الله إذا قضى أمراً فإنما يقول له كنٌ فيكون,
وإنه لكل أجلٍ كتاب,
ومن اصطفاه الله شهيداً خير ممن فارقته روحه بسكتةٍ قلبية أو ذبحةٍ صدرية!


(1): حماس والقرارات الصعبة- 1/7/2003
(2):إحدى الكلمات المسجلة للدكتور عبد العزيز الرنتيسي.
(3): حماس ليست وحدها في المعركة .. وستنتصر بإذن الله - 9/9/2003
(4): قل لي بربك أيها المفاوض الفلسطيني.. لماذا تسعى إلى المفاوضات؟!!! - 20/10/2003
(5): المقاومة هي الخيار- 11/8/2003
(6): نريد الحوار... ولا نريد شعارات بلا مضمون – 7/1/2003
(7): هل السلطة في ظل الاحتلال إنجاز وطني أم إنجاز للاحتلال؟- 2/9/2003
(8): ماذا بعد انجلاء الغبار ؟!- 23/1/2002
(9): لماذا لا تنفض السلطة يدها من أوسلو ؟؟!!- 6/6/2002
(10): صـــــرخة- 28/8/2001
(11): السياسة فن التمسك بالثوابت و ليست فن التراجع-17/3/2003
(12): الأسرى على السلم أولويات المقاومة الإسلامية في فلسطين- 7/2/2004
* الأبيات من قصيدة (عياش حيٌّ لا تقل عيا ش ماتْ )
--------------

السبت، 4 أبريل 2009

الخشوع وغض البصر



هل تعلم أن غض البصر من أسباب الخشوع ... قد يعجب المرء حين يعلم هذه العلاقة.. ويقول قائل لو أردت أن أستجلب الخشوع لعملت على التركيز أثناء الصلاة ولا علاقة لهذا بما أفعله خارج الصلاة....

ولكن هذا الكلام غير صحيح فما يعمله الإنسان في السر أو في العلن بالقول أو بالفعل، قليلا أو كثيرا، لا بد أن ينعكس مباشرة على باقي أمور حياته في تفكيره وسلوكه، في مشاعره ومزاجه، ولا نبالغ إن قلنا إن أعماله تبلور شكل وجهه وملامحه (نظرية أن الماء يتبلور ويتشكل حسب البيئة المحيطة به.. وتتغير بلوراته بأشكال عديدة إن قرأ عليه القرآن مثلا.. والإنسان معظم جسمه يتكون من الماء..) والحسنة كما نعلم لها نور في الوجه وقوة في الجسد ومحبة في قلوب الخلق..

وهذه الحقيقة أو هذه السنة من سنن الحياة توضح وتشرح لنا الكثير من أسرار الحياة فالطاعات تشرح الصدر وتصلح البال وتطرح البركة في المال والعيال، وأيضا لها دور كبير في الاستقرار النفسي وبالتالي التركيز العقلي مما يهيئ أسباب الخشوع في الصلاة، والعكس صحيح فالمعاصي – نسأل الله أن يتوب علينا وعلى عصاة المسلمين – تقلب حال الإنسان وتشغله عن منفعته وتبعده عن الهدى والنور والاستقرار في هذي الحياة والعياذ بالله.

ومما سبق يكون من السهل علينا أن نستنتج أن على الإنسان إذا أراد أن يكون قريبا من الله، وأن يحيا حياة طيبة، فعليه بالطاعات والبعد عن المعاصي كي تستقيم شخصيته ويستوي تفكيره ويصح جسده ويخشع في صلاته.

الاثنين، 30 مارس 2009

شيخي أحمد ياسين



بقلم: الشيخ الشهيد د. نزار ريان

كُنَّا صغارًا في هذا الوطن الحبيب، نحلم بالبلاد الحلوة الندية، نعشق حكايات الجدات عنها والجدود، نأنس بذكر البيارة والكرم والجابية وبير القواديس، نحب حمار جدنا ونعشق جمله، ونتنسم عبير الزنبق في عسقلان، ونصعد مئذنة روبين في صيف العنب والتين، ونُرَبِّعُ مع آبائنا في ربيع الحصاد والهيطلية على ضوء قمر فلسطين.

كُنَّا صغارًا، لكن كان الوطن أطيب عبيرًا من الشذى المسفوح في زهر البرتقال اليافاوي، وأندى من قطف التين في ملقط البوص صبحًا.

كُنَّا وكان الوطن كبيرًا، كبيرًا، أكبر من كل وطن في هذا الكون القوي الباطش، وطننا أكبر من كل الأوطان وأحلى، في وطننا يافا، وهل في الأوطان مثل يافا عروسًا تحتضن الشمس أصيلاً فضة وذهبًا، في وطننا عسقلان، وهل للناس عسقلان تذكرهم بصلاح الدين، في وطننا القدس، حَصَانٌ رَزَانٌ، في وطننا بيسان، عطرته سَنَابِك خيل اليرموك ومؤتة، في وطننا عكا، قاهرة الطغاة، فيه يغير عليها أسامة بن زيد صبحًا، كان الوطن ولم يكن شيء كالوطن في عيون اللاجئين.

كُنَّا يا فلسطين صغارًا؛ لكن لا كالصغار في بقية أرجاء الأرض، فقد استيقظنا على آهات معتقةٍ جراحاتها، وشفاه لا تكاد تتمتم بشيء كما تتمتم بحكايات البلاد، بير العسل والمية، قصب الجابية الأحلى من كل قصب، الزيتون الذي يقطر زيتًا قبل تصليب الصليب، وكُنَّا نصوغ صور الوطن، على لوحة سطح القرميد الإسمنتي في مخيمات المهاجرين، بكل ألوان الخيال الزاهية.

كُنَّا صغارًا يا فلسطين، يا حبيبة القلوب ومهجة النفوس المسلمة في كل مكان، كُنَّا يا حبيبتي نحلم بالساعة التي نراك فيها سالمة منعمة، آمنة مكرمة، وفجأة هجم الليل من كل مكان، يجثم بكلكله على القلوب الصغيرة، فقنابل الهاون تشتت شملنا مرة أخرى، وتمزق أفئدة صغيرة صغيرة، ورأينا الموت في مقابر المخيمات أسود داكنًا، وصار من دأبنا أنْ نخرج كل يوم مرات إلى المقابر، نزرعها أحبة كان آخر ما همسوا: وصيتكم أن تنقلوا جثتي إلى البلد، وصيتي لبلاد، وصيتي لبلاد.

وتمزق الناس في الأرض وتفرقوا في نكسة جديدة، وصار لنا نكبة ونكسة، وطارت الآهات تلتقي عبر رسائل يحملها من بعيد الصليب الأحمر، يجتمع الناس عند الجامع، ينادي المنادي، ثم ينفض الناس، وحسرات وزفرات، يا مِنْ دَرَا يِجِي منك خبر يا حبيبي؛ يا مِنْ دَرَا!!.

وفي مسجد العباس يهمس أبو محمد الإمام الياسين في آذان الشباب الصغار حوله: "لا والله؛ والله لنقاتلنهم في اللحظة التي نمتلك فيها مسدسًا واحدًا"، فترتجف الأفئدة إذ التفكير في مواجهة اليهود مخيف ومرعب، وصورة اليهودي مرسومة في الأذهان من يوم دير ياسين ممتزج لون الدم فيها بالسواد، أفنقاتل اليهود.

ويتابع الياسين: "نحن واليهود في صراعٍ على هذا الجيل، فإما أن يأخذه اليهود منا، أو ننقذه من أيدي اليهود"، وأعلنها إمامنا الياسين.

وكانت معركة، ابتدأت إسرائيل الدولة المنصورة في حرب الأيام الستة تغني في ساحة الأقصى المحترق منبره: "محمد مات، خَلَّف بنات"، يتنغم بها موشى ديان وجنوده، في الباحة بين المسجدين الصخرة والأقصى، وتدار كؤوس الشمبانيا، في باحات كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يطهرها بثوبه من قرون.

كانت معركةً لا كالمعارك، اليهودي يريق الخمر في أفواه السكك الضيقة في حارات المخيم هدية في عيد يهود، ويجرد الحرائر من الثوب الجلجلي والجنة والنار، ويلبس النساء موديلات صدورها بادية والنحور، وتطير الملاءات عن الشعر الحرير الطاهر العفيف، خمر وعري ومقاهي وهزيمة.

ويبدأ الصراع على الجيل، بين الإمام الياسين والقلة المؤمنة معه، وبين افتتاح الخمارات، ومنع إنشاء المساجد، وزرع المقاهي، وتعمير السينما النصر والجلاء وعامر والسامر، ونشر الصور الخليعة بين أيدي الصغار في المدارس الإعدادية، وفتح باب العمل للناشئة خدمًا في سوق اليهود وشواطئ بلادنا المدنسة بنوادي العراة.

كانت المعركة كبرى، وكان الشيخ لها، وكان الأقمار معه من الدعاة الصالحين، المؤمنين بأننا سنجوس خلال الديار، ونتبر ما علوا تتبيرًا.

وبدأ الإمام يزرع في بيوت الله وردًا وعنبرًا، ومسكًا وغالية، ينثر البذور ويتبعه بالتربية، يحمله على دراجته أحد طلابه إلى البيوت والأزقة، يزور هذا، ويربت على كتف هذا، ويهمس في جباليا وينادي في رفح والشاطئ، ويركب إلى أم النور وبئر السبع، ويقيم المؤسسة، ويعلم الطلاب الصلاة حين ينفض سامر الدروس التي لا تعرف الوطن ولا تمجده.

كان الصراع على الجيل كبيرًا، يفتتح مدرسة للتلاوة في المسجد، يعلم أولاد فلسطين كيف يرتلون سورة الأنفال ترتيلاً، ويعدهم بأن السورة ستصير صورة، وأنَّ الصورة ستكبر وتكبر، وأنها ستمتد في أنحاء الأرض حتى يهتف أهل الفلوجة في عراق العرب المسلوب: "ولا يهمك يا حماس"، وفي أطراف الأرض تزين الصبايا حجراتهن بصورة الشيخ الإمام أبي محمد الياسين.

وصار عيبًا ألا تعرف "مَن هو يا ولدي أحمد ياسين"، صار عيبًا ألا تكون مع الإمام، صار غفلةً ألا تمشي خلفه، وتجعل كرسيه رمزًا لأمة هتافها: "عائدون عائدون، إننا لعائدون".

شيخي أبا محمد؛ لعله قد ابتلت العروق، ولعل آن لك أن تستريح سيدي المعلم الكبير، فلقد حملت الأمة همًّا فما وضعته حتى استشهدت، ومضيت تحملنا على العزائم، وتكره الرخص، وتعلمنا كيف يكون الليل مدرسة المجاهدين قيامًا وصلاةً، والنهار للصائمين مدرسة أخرى، والتسابيح، كم كنت تغضب حين نردد غير الأذان كلامًا، وتعتب حين نهمس بين كلمات الأذان غير الله أكبر الله أكبر.

سيدي أبا محمد، لا زلت أنظر في بريق الأمل في عينيك يا حبيبي، لا زلت أعلم أن النصر آت، وأن الفجر قادم، فكم كنت تحضننا بالأمل وتحصننا من الملل، وتدعو لمواصلة الطريق، تقول: "الميل الأول صعب، وبعدها يسير الناس على المدرجة والدرب".

سيدي أبا محمد، لطالما علمتنا حيًّا، علمتنا أن فلسطين عائدة ما عاد الجيل إلى الله، فتدعو لبناء المساجد والمدارس، وتفتح القلوب والأفئدة، بالابتسام والاتساع لكل الناس.

واليوم تعلمنا وأنت حي عند ربك بإذن الله، تعلمنا يا حِبَّ القلوب والأفئدة، يا زيتونة يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، فكيف وقد مسته النار، فامتد لهيبًا يحرق الغاصبين المحتلين، ليرحلوا ليرحلوا، فما في بلادنا مكان للغرباء والغربان، إنها بلادنا.

الأربعاء، 25 مارس 2009

استشهاد الإمام



استشهاد الإمام*


يا لهفَ نفْسي ويحكم من ذا الَّذي ***** أضْحَى على أكتافِكم محمولا
بالله أسْــألكم أحـق ما أرى ***** أم أنــه حلُمٌ أراه ثقيـــلا
"قالوا رحلت فما شـككت بأنها ***** روحي عن الدنيا تريد رحيـلا"
والقلب ذاب فما يداري حزنـه ***** والعين صبت بالدموع سيـولا
والنفس قد لبست لذلك أسـودا ***** من فوق أثواب السواد الأولى
*****
لا، فاتئـد يا قلب واثبـت لا تهن ***** واصدع وردد بكرة وأصيـلا
يا شيخ إن ضحكوا لقتلك ساعة ***** فلسوف يبكون الغداة طويـلا
الله أكبر لم تمـت يا شيــخنا ***** فلقد سبقت إلى الجنان وصولا

*****
ياســين أنت منار كل مجاهد ***** يرجو إلى الرب الكريم سبيلا
تقضي النهار مكافحا حتى إذا ***** آنسـت لليل البهيـم سـدولا
صليت لله العظيــم دعوتـه ***** يا رب هبني من رضاك قليلا

*****
شــارون أخزاك الإله بقتلة ***** تشـفي من القلب الكليم غليلا
أنت الذي في كل واد كنت عن ***** سـفك المحارم والدما مسئولا
ما زلت قردا يا حقير وإن بدا ***** كرش يضاهي في الضخامة فيلا

*****
فرحوا وهنوا بعضهم يا ويلهم ***** هل يفخرون بقتلهم مشـلولا
خابوا إذا ظنـوا بقتلك أنـهم ***** حازوا من المجد المروم جزيلا
خربت شوارعهم فما من سالك ***** إلا ويخشى من ذويه عويلا
وملاعب ومراقص قد أقفـرت ***** من زارها طبعا غدا مقتـولا
سـيناله رد الكتـائب إنـها ***** ما من يد فاقت يديها طــولا

*****
يا رب وفق جندنا كي يثـأروا ***** ويزلـزلوا بالرعب إسـرائيلا
وليقلعوا عين الخؤون ورأسه ***** ويقتـلوا أمثــاله تقتيــلا
إن كان من قول فلا قول سوى ***** يا رب نصرك قد غدا مأمولا
ياسين نم نوم العروس ولا تفق ***** سيف الكتائب لم يزل مسلولا

---------
*هي أول قصيدة لـ"براء نزار ريان" وألقاها في ذكرى الياسين الأولى بلقاء شعري في مسجد المحطة، ثم نشرها في شبكة فلسطين للحوار