أمهات ودعنَّ فلذات أكبادهنّ أبدًا- رغم أنهم ما زالوا في عمر الزهور- وحَلُمن باللقاء بهم عما قريب في جنة خالدة، حيث اللقاء بلا وداع ولا فراق يؤلم قلوبهنّ مجددًا..
ذلك مشهد أمهات شهداء الحرب الأخيرة على غزة، بعضهنّ فقدن فلذات الأكباد تحت ردم وأنقاض البيت المدمر، وأخريات فقدنهنّ بينما كانوا في طريقهم إليها بعد مشوارٍ قصير في ساعات الهدنة الثلاثة، وثالثاث شهدن بأم أعينهن لحظة الرحيل، فما استطاعت أن تصدق الوداع، وغابت بوعيها عن الدنيا قليلاً، ورابعات وخامسات وعاشرات وقفن لحظة الوداع يلوحن بأيدهن مودعات محتسبات..تغرق عيونهن بدموع يخفينها في تجاويف الجفون، ومن ثمَّ ترحل بخطى وئيدة موحشة، وعلى ألسنتهن تتدحرج كلمات الافتقاد حزينة آملة بلقاء بعد البكاء..
موقع "القدس أون لاين" قام بعرض قصص أمهات ودعن في لحظة واحدة أكثر من ابن شهيد، وأخريات ودعن إضافة لفلذات الأكباد الزوج والسند والمعيل، وبقيت وحيدة تبكي ألم الفراق بين ركام البيوت وأطلال الذكريات، تابع معنا..
إن ودعك ابنك مسافرًا طلبًا للعلم أو العمل يعتصر قلبك ألمًا لفراقه الذي قد لا يدوم طويلاً، فكيف إذا ودعك أبدًا بعد الممات فلا ترينه إلا خيالاً في شريط الذكريات؟! أي قلب يحتمل ذلك الفراق..
نعمة محمد منصور بربخ، أم بلغت من العمر 44 عامًا، ذاقت لوعة فراق الأحباب ليس سفرًا بل رحيلاً، في الرابع من يناير عام 2009 فقدت فلذات أكبادها مهدي 26 عامًا، ومحمد 17عامًا، ويوسف ابن الخمسة عشر ربيعًا، وزوجها عبد، في لحظة شهادة واحدة بصاروخ من طائرة استطلاع بينما كانوا في حديقة منزلهم يقطعون جذوع الحطب، جزعت الأم لحادثة الفقد والرحيل الطويل، تمزق قلبها وجعًا، وذرفت دموعها ألمًا، لكنها ما لبثت أن ربطت على جرحها النازف بالصبر الجميل..
تقول: "ليس أصعب على الأم من فراق فلذات أكبادها، لكن الله يصبر النفوس". وتتابع: غادروني أجسادًا فقط، بينما ذكراهم تملأ فكري ووجداني، في كل مكان في البيت لهم ذكرى، وتبدأ بتعديد ذكرياته: "هنا كان ينام يوسف تلك حقيبته، وهذه ملابسه اشتريتها له قبل استشهاده بقليل، وفي تلك الزاوية أذكر حديث مهدي وإلحاحي عليه بالزواج وتكوين أسرة، وإنجاب أحفاد أدللهم وأحنو عليهم، وهناك كان محمد يساعدني في إشعال النار حتى لا يتألم صدري وتضيق أنفاسي، وعند باب الغرفة وقف زوجي يودعني قبل الذهاب للعمل، أذكر ابتسامته بعد أن دعوت له". تصمت تبكي، ففي الدمع سلوى لأشواق قلبها وحنينها لضم أبنائها، ما زاد من لوعة الأم أنها لم تتمكن من أن تطبع قبلة الوداع الأخيرة على وجوه أبنائها وزوجها، فقد حولهم الصاروخ إلى أشلاء، كما لم يتثنى لها أن تراهم، فمن ثلاجة الموتى إلى القبور سارت جثامينهم.
ذلك مشهد أمهات شهداء الحرب الأخيرة على غزة، بعضهنّ فقدن فلذات الأكباد تحت ردم وأنقاض البيت المدمر، وأخريات فقدنهنّ بينما كانوا في طريقهم إليها بعد مشوارٍ قصير في ساعات الهدنة الثلاثة، وثالثاث شهدن بأم أعينهن لحظة الرحيل، فما استطاعت أن تصدق الوداع، وغابت بوعيها عن الدنيا قليلاً، ورابعات وخامسات وعاشرات وقفن لحظة الوداع يلوحن بأيدهن مودعات محتسبات..تغرق عيونهن بدموع يخفينها في تجاويف الجفون، ومن ثمَّ ترحل بخطى وئيدة موحشة، وعلى ألسنتهن تتدحرج كلمات الافتقاد حزينة آملة بلقاء بعد البكاء..
موقع "القدس أون لاين" قام بعرض قصص أمهات ودعن في لحظة واحدة أكثر من ابن شهيد، وأخريات ودعن إضافة لفلذات الأكباد الزوج والسند والمعيل، وبقيت وحيدة تبكي ألم الفراق بين ركام البيوت وأطلال الذكريات، تابع معنا..
إن ودعك ابنك مسافرًا طلبًا للعلم أو العمل يعتصر قلبك ألمًا لفراقه الذي قد لا يدوم طويلاً، فكيف إذا ودعك أبدًا بعد الممات فلا ترينه إلا خيالاً في شريط الذكريات؟! أي قلب يحتمل ذلك الفراق..
نعمة محمد منصور بربخ، أم بلغت من العمر 44 عامًا، ذاقت لوعة فراق الأحباب ليس سفرًا بل رحيلاً، في الرابع من يناير عام 2009 فقدت فلذات أكبادها مهدي 26 عامًا، ومحمد 17عامًا، ويوسف ابن الخمسة عشر ربيعًا، وزوجها عبد، في لحظة شهادة واحدة بصاروخ من طائرة استطلاع بينما كانوا في حديقة منزلهم يقطعون جذوع الحطب، جزعت الأم لحادثة الفقد والرحيل الطويل، تمزق قلبها وجعًا، وذرفت دموعها ألمًا، لكنها ما لبثت أن ربطت على جرحها النازف بالصبر الجميل..
تقول: "ليس أصعب على الأم من فراق فلذات أكبادها، لكن الله يصبر النفوس". وتتابع: غادروني أجسادًا فقط، بينما ذكراهم تملأ فكري ووجداني، في كل مكان في البيت لهم ذكرى، وتبدأ بتعديد ذكرياته: "هنا كان ينام يوسف تلك حقيبته، وهذه ملابسه اشتريتها له قبل استشهاده بقليل، وفي تلك الزاوية أذكر حديث مهدي وإلحاحي عليه بالزواج وتكوين أسرة، وإنجاب أحفاد أدللهم وأحنو عليهم، وهناك كان محمد يساعدني في إشعال النار حتى لا يتألم صدري وتضيق أنفاسي، وعند باب الغرفة وقف زوجي يودعني قبل الذهاب للعمل، أذكر ابتسامته بعد أن دعوت له". تصمت تبكي، ففي الدمع سلوى لأشواق قلبها وحنينها لضم أبنائها، ما زاد من لوعة الأم أنها لم تتمكن من أن تطبع قبلة الوداع الأخيرة على وجوه أبنائها وزوجها، فقد حولهم الصاروخ إلى أشلاء، كما لم يتثنى لها أن تراهم، فمن ثلاجة الموتى إلى القبور سارت جثامينهم.
وداع من نوع آخر
أم الشهيدين إبراهيم ومحمد أكرم أبو دقة كان وداعها لفلذات أكبادها من نوع آخر، لوحت بيدها تجاه الجثامين المرفوعة على أكف الأهل تبسم وجهها للراحلين، وتلفظ قلبها قبل لسانها بالدعاء بالتقبل عند الله شهداء، والفوز بالجنان مع الصالحين الأبرار، واللقاء في غد لا وقت فيه للفراق والوداع.
تقول الأم: "ليس لي إلا الصبر وسيلة أستعين بها على الشرخ العميق بقلبي لفراق طفليّ إبراهيم ومحمد، طالما تمنيا الشهادة، وأكرمهما الله بأن يفتت صاروخ أرض– أرض جسديهما في نهار من نهارات الاجتياح البري على قطاع غزة مؤخرًا"، تخفي الأم الألم النابض بقلبها بذكريات تستحضرها كلما ذاب قلبها شوقًا وحنينًا لإبراهيم ومحمد، تلك الذكريات تبدل دموعها بابتسامات لا يبددها إلى الرجوع إلى واقع لا وجود فيه لجسدي الحبيبين يلتصقان بجسدها في ليالي السمر، لكنها تعود للأمل مجددًا بأن تكون لقيا الأحبة قريبة.
لقد فقدت الأم اثنين من أبنائها في لحظة واحدة في ساعات الهدنة الثلاثة، بينما كانوا عائدين بعد ظهر الثامن من يناير الماضي من بستان زراعي بالقرب من نادي عبسان الكبيرة الرياضي، خرجا ليجمعا بعض الأعشاب للحيوانات أحدهم استقل دراجة، والآخر عربة حديدية، لكنهما لم يعودا إلا أشلاءً ممزقة، أجسادًا بلا رءوس ولا أيدي، ورغم حرقة الوداع الملون بالدم والأشلاء على قلب الأم، إلا أنها رفعت رأسها تعلي الصوت بالدعاء بالرحمة لمن قضوا بإذن الله شهداء.
أمام عينيها رحلوا فغابت عن الدنيا
صدقي، أحمد، ومحمد العبسي رحلوا على مرأى من عين أمهم، فما استطاعت احتمال المشهد غابت عن الدنيا بإرادتها في غيبوبة.
ترفض الأم أن تصدق رحيل أبناء عمرها في لحظة واحدة بعد أن قصفت قوات الاحتلال البيت على رءوسهم وهم نائمون ليلة التاسع والعشرين من ديسمبر العام الماضي، في أول أيام الحرب على القطاع، تقول الابنة الكبرى فداء: "أمي ما زالت في المستشفيات المصرية تتلقى علاجًا لندوب وجروح جسدها المصاب بالشظايا في مختلف أنحائه"، ووفقًا للأطباء فإن الوضع الصحي للأم مستقر، بينما وضعها النفسي مضطرب، فهي ترفض أن تستعيد وعيها أو تفتح عينيها فتفيق على واقع أليم لا وجود فيه لفلذات أكبادها الثلاثة.
صبرٌ جميل
قد يهون على النفس رحيل بعض من فلذات الأكباد، وبقاء البعض الآخر يعين على تحمل آلام الفراق لأجلهم، ليشبوا صامدين صابرين، لكن إذا ما رحل الجميع والأب، ولم يبق أحد، فمعادلة الصبر على عناء الفراق تبدو أكثر صعوبة.
أم محمود لم يبق لها من أبنائها الأربعة أحد يعينها على الذكرى، رحل الجميع بضربة صاروخ واحدة بين شهيد وجريح التحق أخيرًا بركب الشهادة، تقول السيدة وقد أغرقت دموع الفراق وجهها: "في أيام الحرب سقط صاروخ على بيتي في بيت لاهيا فاستشهد اثنان من أبنائي الأربعة على الفور وأبيهم، فيما أصيب الابنين الصغيرين". تأملت أن ينجو الصغيران. دعوت الله أن يعيدهما سالمين من مستشفيات القاهرة، لكنهما عادا على نقالة بلاستيكية لتودعهم قبل الذهاب بهم للمسجد ليصلى عليهم، ومن ثم يواريا التراب.
الألم بقلب الأم كان كبيرًا مريرًا، لكنها استعانت بالإيمان والصبر الجميل، فالله الرازق والمعطي، والله وحده من يملك أن يسترد أمانته في الأرض، بكت كأي أم انفطر قلبها على فراق الأحباب، لكنها أسلمت الأمر لمدبر الأمر، وانشغلت عن الحزن بالدعاء أن يكون الملتقى قريبًا بعد الممات في جنة لدى رب العباد.
تسلسل الرحيل
في السادس من يناير الماضي نفذت قوات الاحتلال خلال اجتياحها البري للقطاع جريمة بحق عائلة ديب في محيط مدرسة الفاخورة شمال قطاع غزة، وقتها فقدت زوجة سمير ديب الزوج شهيدًا، وأبنائها عصام ومحمد، وأصيبت فاطمة، ثم التحقت بركب الشهادة مع الأب والشقيقين.
رحيل الأبناء محمد وعصام والزوج سمير كان في نفس اليوم، لكنه ليس في ذات اللحظة. البداية كانت مع استشهاد عصام بالقرب من السور الغربي لمدرسة الفاخورة، وبعد دقائق لا تتعدى الثلاثين استشهد الابن محمد برفقة والده، وأصيبت فاطمة، فقد عادوا إلى البيت لتوهم ليبصروا الخراب الذي حل به بعد قصف الاحتلال بيت أبو عسكر المجاور، وأخيرًا كان استشهاد فاطمة في المستشفيات المصرية.
رغم افتقادها الأبناء والزوج، إلا أنها ظلت صابرة تدعو الله أن يرعي بحوله وقوته ما تبقى من أبنائها، تقول الأم: "الحمد لله الذي منحني الحياة لأودع أبنائي شهداء، وأمدني بالقوة والعزيمة والصبر على افتقادهم أجسادًا تحت الثرى، لا أرواحًا، فلا يغيبون عن فكري لحظة أذكر مواقفهم معي فأضحك ولا أبكي".
------------
موقع القدس أون لاين / هبة فتحي/غزة
-----------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق