الأربعاء، 19 سبتمبر 2007

شجون في حضرة "الراشد" عن أرض الرشيد



بقلم : وائل أبو هلال
قابلته للمرة الأولى قبل واحد وثلاثين عاما عبر وريقات مطبوعة طباعة رديئة على آلة كاتبة، أحضرها مدير الحلقة المسجدية في أحد مساجد الزرقاء؛ وما أن بدأت بتلاوة هذه الوريقات - على صعوبة القراءة - إذ بكلماتها تنساب في نفسي كقطرات مطر نديٍّ على أرض بكر في صباح ربيعي.
طفقنا - ومعي ثلةٌ من شبابٍ في عمر الورد "طامح ظاميءٍ للمجد التليد" - نتلقف كلماته البليغة، ونحلل جمله وعباراته بمراهقة لغوية غلب عليها طابع "الرومانسية الإيمانية"!!
مازال"طعم" تلك الكلمات في أعماق أعماقي رغم شيخوخة ذاكرتي التي باتت تنسى القريب وتذكر البعيد، ومازالت صورة تلك الوريقات الباهتة في مخيّلتي إذ تلقفتُها ونسختُها "بخط شبابي" ملون، وعلى نسخ كربونية (إذ لم تكن ثقافة ماكينات التصوير موجودة بعد).
نعم مازال ذاك الطعم وتلك الصورة وتلك الإحاسيس تسري في عروقي رغم عبث السنين "فيّ"!!
ثم توالت اللقاءات بعد أن كان "المنطلق" في تلك الحلقة التي بدأت منها "المسار"، وحاولت جاهدا التمس "الرقائق" التي تخفف "عوائق" ذاك" المسار"، و"العين" تحثّ نفسي و"تدعوها للسموّ".
واليوم، وبعد واحد وثلاثين عاما...
آهٍ ... آهٍ ... من ركام السنين وازدحام الصور ونبض المعاناة وطيف السعادة وأخاديد الألم وفيض الأمل وذل الهزائم وخجل النصر الباهت ...
واليوم ... وأنا أحمل على ظهري كل أثقال وأوزار أل "واحد والثلاثين" ... أقابله ثانية في دمشق الفيحاء. وهذه المرة وجها لوجه؛ فلا أوراق ولا كتب ولا نشرات ... قابلته بمعية ثلة مقدسية الهوى في ليلة اختصرت واحدا وثلاثين عاما؛ فكانت بحق: ليلةً دمشقية أموية بغدادية عباسية قدسية!! ليلةً تهاوت فيها شيخوخة الذاكرة وأشباح السنين، وانفرجت أسارير العيون ومحيت خطوط الإنهاك من الحياة، وتراقصت أطياف الماضي، بل لكأني بها راقصت الواقع حتى أذهبت وقار الشيب وهيبة ظلال الزمان والمكان.
لكن ذلك "لهنيهة" سرقناها خلسة من بين أنياب الواقع الذي يئن تحت وطأة الأحداث المليئة بالأسى والمترعة بالألم؛ إذ ما لبثت تلك الهنيهة أن شهقت شهقة "الوداع الأخير" لتلك الليلة.. لتعود ليلة" بغدادية" بامتياز، إذ ما لبث أن استلم البغدادي قيادها لينتشلنا من نشوة الماضي ويعيدنا للمشهد الآني ببراعته التي ذقتها قبل واحد وثلاثين عاما ..
بسبعينيته المثقلة بالسكّر والضّغط والغضروف المقعِد تراه بخفة العشرين حيوية وهمة وذاكرة إذا كان الحديث عن أرض الرافدين ودرة العينين فيها: عاصمة الرشيد. يرسمها لك مدينة مدينة من شمالها لجنوبها ومن شرقها لغربها ثم لا يفتأ يتوقف بسويدائها- بغداد ...
"بغداد" التي يحفظها عن ظهر قلب حياً حياً، وعائلة عائلة، ومسجداً مسجداً ...
"بغداد" التي غناها طيلة عمره ها هو الآن يبكيها ويرثيها قبل أن يدفنها، وكأني به "مالك بن الريب" يرثي نفسه، كيف لا وبغداد هي منه النفس بل أغلى!!
هذه الأحياء البغدادية التي تتراقص في مخيلته "هارونية" العزة، "ومأمونية" العلم، "ومعتصمية" المروءة ... هذه الأحياء بعراقتها "رصافة" و"كرخاً" يبكيها وينتحب لها إذ يراها تتساقط أمامه وتتهاوى وتفلت من بين أصابع العزة والعلم والمروءة واحدا تلو الآخر، لتلتقطها مخالب طائفيّ أمريكيّ الهوى أحمق الخطى، وتداس تحت أقدام "خارجيٍّ" "بويهيّ" الفكر أسود الرؤى ...
فهذي "الرصافة" فقدت أبناءها إلا "أعظمية" الإمام، تسربلت بالسواد حصاراً وتنتظر دماراً وقتلاً، وإن أسعف الحظُّ الأًعظمييّن بالنجاة من الذبح فسوف يلقون بعد الدمار تشريداً ...
وهذه "الكرخ" خاصرة دجلة اليسرى تتلوى وتتأوه تحت حصار العدا، وتتمنى أن يتفجر دجلة غضباً فيغرقها قبل أن يغرقها طوفان "المجوس".
سيّدي أيها "الراشد" سناً وفكراً ... سيّدي قد فجعتنا ... جئناك يحدونا أمل مفقود بنصر موعود، بيد انك بالحقيقة أدميتَ قلوبنا ...
سيّدي أيها العراقيّ "أصلاً"، والعالميّ "فكراً" و"أثراً"، اسمح لي أن أنتزع الأمل من كومة الدمار؛ إذ أنني أرى إشراقةً في تآخي بغداد والقدس في الدّما تضيء أملاً قد يطفيء ألماً ...
فطُفْ سيّدي!! ... طُفْ "بسبعينيتك" العالم وبشر، نعم! بشّر أن دجلة تأبى الغزاة وأن الفرات يأبى الطغاة ... بشّر حتى وإن أن أظلم ليلٌ فمآذن بغداد حتماً ستصدح بالصباح ..
سيّدي ... ألقِ عند "الأمويّ" شجونك واحمل من عند المقدسيين "نفسا تضيء وهمة تتوقد"، غرستها فيهم قبل واحد وثلاثين عاما في بداية "المسار"، وها أنت اليوم تقطفها لتنطلقوا معا نحو التحرير دون "عوائق"!!
سيّدي ... طُفْ بسبعينيتك العالم كل العالم وأخبرهم أن "بغداد" دوماً وأزلاً ستبقى عروساً في عشرينها ... وستتعود كما كانت دوما "مدينة السلام"!!
دمشق في 30/7/2007

ـــــــــــــ[1] هو المفكر الإسلامي الكبير عبد المنعم صالح العلي العزّي، والمعروف بمحمد أحمد الراشد.

ليست هناك تعليقات: